إلسي كفوري خميس
صوتها ملائكي نقي. هي عنوانٌ للرقي وانعكاسٌ لصورة الفنّ الجميل. حملت قضايا الوطن بأغنياتها التي لا يمحوها الزمن، فتعود وتسطع عند كل منعطف، لما تشكّله من رمز للعنفوان والصلابة، منها «وعد يا لبنان»، «أرضك الكرامة»، «رشّوا الفلّ العسكر طلّ»، «اشتقنالك يا بيروت»، وغيرها الكثير لعباقرة كبار. تشرّبت عشقها للبنان من فنّ الرحابنة، فضلًا عن نشأتها البيتيّة في جوٍّ وطني صرف.
الساحة لم تعد تشبه ما قدّمته وكرّسته بصوتها، لكن مكانتها بقيت محفورة في الذاكرة الوطنيّة والوجدان اللبناني. الفنّ بالنسبة إليها يجب أن يحمل رسالة، ومشوارها فيه، على مدى أربعين عامًا، لم يحد قيد أنملة عن طبيعتها وطيبتها، ولمّا يزل بعيدًا من أيّ تنازلات. فحافظت على هويّتها، مقدّمة جديدها الذي يليق بمسيرتها وبخطّها الملتزم الرصين.
فنّانة القضيّة اللبنانيّة غنّت أيضًا للحبّ. وفي جعبتها عددٌ من الأغنيات الرومانسيّة التي تلامس القلب والروح بمعانيها الجميلة، لعلّ أشهرها «يا سارق منّي مكاتيبي».
تعاملت مع عمالقة الشعر واللحن، أمثال وديع الصافي، الياس الرحباني، ملحم بركات، أنطوان جبارة، طلال حيدر، إحسان منذر الذين قدّموا لها أعمالًا خالدة لا تتكرّر.
إنّها الفنّانة القديرة باسكال صقر التي تخبر «قلم غار» عن اختبارها الروحي العابق بالإيمان وحبّ الوطن.
التزامٌ في المسيحيّة
حبّها للوطن يسبقه حبّ الله الذي يرافقها يوميًّا في كل خطواتها. تقول: «الربّ موجود في كل لحظة من حياتي، سواءٌ أكان من خلال تصرّفاتي أم طريقة تفكيري أم عملي. حضور الله يلازمني في كل حين. أنا أقرأ الإنجيل يوميًّا، وأشارك في قداس الأحد، إنّما لا أكتفي بالقيام بواجباتي الدينيّة، بل أعيش مسيحيّتي من ناحية التحلّي بالفضائل، كالمسامحة والتواضع وتحقيق إرادة يسوع. وهذا هو الأهمّ بالنسبة إليّ».
غالبًا ما تختبر صقر وجود الله قربها، ولا سيّما في اللحظات الصعبة. تضيف: «أناجيه وألمس حضوره وعمله فيَّ، من خلال علامة يمنحني إيّاها تجعلني أدرك أنّه استجاب لصلواتي، وعندما ينتشلني ممّا أتخبّط به أو يحقق لي ما كنت أتمنّاه. أشعر دومًا بأنّ الربّ يستجيب لتضرّعاتي، وبخاصة الروح القدس. وأحمده لأنّه لم يخذلني يومًا».
لا تذكر صقر أنّها وقعت في تجربة صعبة جدًّا أو مريرة غيّرت حياتها وشكّلت نقلة نوعيّة فيها، وذلك بفضل الربّ لأنّها كما تقول: «لا ولم أبتعد يومًا عن يسوع، فهو دائمًا في قلبي ويرافقني في يوميّاتي». لكنها تستطرد متابعة: «قبل اعتلاء المسرح، أرسم إشارة الصليب وأطلب من الله القوّة والتوفيق. وبالفعل، يكون أدائي رائعًا».
الصدق في الأداء
عندما نسألها عن اختلاف الأغنية الرومانسيّة عن تلك الوطنيّة، تجيب: «لا تختلفان إنّما ما يجمعهما هو الصدق. كل عمل أؤدّيه يكون نابعًا من القلب ليصل بإحساسٍ مرهف إلى الجمهور. يجب أن تكون كل أغنية أو ترنيمة مفعمة بالحبّ؛ حبّ الوطن والجيش، حبّ يسوع. وعندما أرنّم، أنقل للناس ما أشعر به من حبّ كبير. أنا أعيش ما أقوله أو أؤدّيه وأشعر بفرح عندما تكون الأصداء إيجابيّة».
تنفي صقر غيابها عن الساحة الفنّية، فإطلالاتها قليلة ومتقطّعة. صحيح أنّها تبتعد لفترة عن الإعلام لكنها موجودة في الحفلات. وتردف: «ألاحظ أنّ الشباب يتفاعلون كثيرًا مع أغنياتي ويجيدوها، لكن الإطلالات الإعلاميّة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مرتبطة بالمادّيات، وهناك آلاف الدولارات تُدْفَع لكي يبقى النجم تحت الأضواء».
الفنّ الهادف والحفاظ على الهويّة
رواج الفنّ الترفيهي على حساب الفنّ الهادف والتثقيفي شكّل حسرة في قلبها. الشعراء والملحّنون، أمثال الكبار الذين تعاملت معهم، تركوا فجوة دائمة لا يمكن ملؤها.
تعزو صقر السبب إلى «الأجواء المادّية المسيطرة والتوتر والضغط وعصر السرعة، كلّها عوامل مؤثرة». وتضيف: «في النهاية، المؤلف أو الملحّن إنسان يتأثر بما يدور حوله. كما الناسك الذي يختلي في محبسته ليصلّي ويتقرّب أكثر من الله، المؤلف بحاجة أيضًا إلى جوٍّ ملائم ليبدع». تقرّ بوجود مواهب، لكن «الأجواء لا تسمح بإصدار أعمال خالدة».
أكثر ما تخشاه صقر يكمن في الابتعاد عن هويّتها الفنّية إذ إنّها «هويّة صادقة، فأنا أقدّم كل ما هو جميل ومميّز وراقٍ يليق بماضينا الفنّي العريق. فهويّتي أهمّ بصمة تركتها، وأنا لا أساوم عليها مهما كان الثمن»، بحسب قولها. أمّا بصمتها الإنسانيّة في تعاملها مع الآخرين، فتختصرها بالتواضع وعدم التباهي، قائلة: «نحن الفنّانين بشرٌ كغيرنا من الناس، وأنا أعيش حياتي بشكل عادي وطبيعي».
المسرح وشروط الإنتاج
تتمنّى صقر المشاركة في عمل مسرحي لأنّها تعتبر المسرح «من أجمل الأعمال الفنّية التي تجمع بين الموسيقى والقصّة والرسالة الهادفة». نسألها: ما المانع؟ فتجيب: «الأجواء تغيّرت والناس أصبحوا في حركة دائمة، فمن الصعب أن يتابعوا عملًا مسرحيًّا طويلًا».
أمّا على صعيد الأغنيات، فهل من جديد؟ تردّ صقر بأسف: «الإنتاج أضحى صعبًا، ويتطلب إمكانيّات مادّية هائلة وشركات داعمة، والساحة أمست لمن يدفع أكثر. ولم يعد هناك أيّ اعتبار أو تقدير للفنّ الأصيل وللفنّانين الذين ضحّوا في مسيرتهم». لكنها تستطرد لتضيف: «الله معنا، وهو يساعدنا على الرغم من كل تلك الضغوطات والعراقيل والصعوبات».
شكر ورسالة للبنان
تختم صقر شهادتها عبر «قلم غار» بشكر الله على كل شيء؛ تحمده على صحّتها، وعلى كل ما تملك «من أبسط الأمور وأصغرها إلى أكبرها». وتردف: «كلّما شكرنا الربّ، فُتحت المنافذ في وجهنا، وشعرنا بالطاقة الإيجابيّة. إذ يجب أن نقدّر كل شيء في حياتنا».
وللبنان الرسالة الأخيرة: «ما قدّمته لوطني من أغنيات جميل جدًّا، وأعود وأقدّمه من جديد إذ لا يمكن أن أقدّم الأفضل منه». وتُنهي آملة «أن ينعم شرقنا بالسلام، وأن يعود لبنان واحة سلام، ونعود معه لنغنّي “اشتقنالك يا بيروت” و”أرضك الكرامة شعبك طير النار”، وللجيش “يا جندي يا باني العزّ”. لا أعتقد أن هناك أجمل من ذلك لننشد للبنان».