نيكول طعمة
في صباحٍ كئيب، صمتت الأحلام وخُطِفَت البراءة في لحظةٍ واحدة… جاء نبأ انتقال الطفل يوان شمّاس إلى الملكوت ليحمل معه ثقلًا لا تطيقه الأرواح ولا تحتمله القلوب. فقد غادر ملاكٌ صغير موطن الكبار بعدما أضاء دروب المحبّة والأمل، وها هو الآن يعود إلى السماء، مخلّفًا جرحًا غائرًا في قلوب جميع أحبّائه. ما أقسى أن تودّع حياةً لم تكمل فصولها بعد، حياة ارتسمت على وجنتَي طفل لا يعرف سوى لغة البراءة وضحكات الصباح.
انتقال يوان إلى الملكوت في 1 تمّوز 2022 تجربة مؤلمة لكنها مليئة بالتحدّي والبحث عن معنى أعمق للحياة الحقيقيّة. بعد غيابه، تحوّلت معاناة العائلة إلى اختبار فعليّ للإيمان، إذ قرأت في الحادث الأليم رسالة روحيّة مهمّة، واعتبرت فقدان يوان فرصة للإصغاء إلى صوت الله واكتشاف غاية أسمى لا يدركها العقل البشري لكنها متجذّرة في الحكمة الإلهيّة.
في هذا المقال المفعم بالألم والأمل، يشهد والدا يوان باتريسيا ووسام شمّاس عبر «قلم غار» لحضور الربّ في حياة أسرتهما الصغيرة، ويخبران عن رسالة ابنهما التي تخطّت حدود لبنان.
خسارة يوان لن تُعَوَّض
بعد مُضِي أكثر من عامين على خسارة نجلها الصغير الذي انتقل إلى الملكوت في عمر السبع سنوات وثلاثة أشهر، تصف الأمّ رحيله بـ«الجرح العميق في القلب، جرح ينزف بالحبّ المفقود والذكريات المحترقة بالحنين».
تخبر باتريسيا أنّ يوان طفل استثنائي، صاحب شخصيّة قويّة وهادئة. لطالما ساعد رفاقه في الصفّ والملعب. هو شعلة من الفرح والحياة، وحضوره غمر البيت بالسعادة والطاقة الإيجابيّة. كان طفلًا يصغي إلى كلمة ذويه ويحترمها، ويتمتّع بفنّ الإقناع، ويعطي الحجج والبراهين المناسبة بتهذيب. كان قنوعًا بما لديه، ويقدّم ألعابه الجديدة للفقراء في المناسبات.
عن الجانب الروحي الذي طبع ملاكها الصغير، تقول باتريسيا: «شكّلت الصلوات محورًا أساسيًّا في حياته؛ واظب على الصلاة صباحًا ومساءً مع العائلة، فضلًا عن وضعه تحت وسادته صليبًا ومسبحة ورديّة وصورة للقديس شربل وأخرى لمار أنطونيوس البدواني».
ترك يوان فراغًا كبيرًا في المنزل، وبخاصة في قلب شقيقته كلايا التي تشتاق إليه وتتحدّث عنه باستمرار وتتذكّر دومًا أجمل اللحظات التي جمعتهما. تقول الأمّ: «هو حاضر معنا ومع الناس؛ ثمّة رسالة نلمسها يوميًّا من انتقاله الباكر إلى الحياة الأبديّة، وهذه مشيئة ربّنا الذي اختار هذا التوقيت من دون معرفة السبب». لا تفكّر باتريسيا بالإنجاب مجدّدًا لأنّ لا شيء يُعوّض خسارة نجلها في حياتها.
باتريسيا توضح تفاصيل الحادثة
بعد انتشار معلومات مغلوطة متعلّقة برحيل يوان، توضح باتريسيا تفاصيل الحادث المأساوي الذي أودى بحياته، قائلةً: «لم يغرق ابني في أحد مسابح جبيل، إنّما كانت العائلة حاضرة في منزل أحد الأصدقاء في جبيل للمشاركة في الاحتفال بالمناولة الأولى لابنه. احتضنت باحة المنزل بركة، فأحبّ الأولاد السباحة فيها واللعب معًا. جلس ابني على حافة البركة، ولم نعرف كيف وقع فيها. لم تغمره المياه لأنّ ارتفاعها لم يتجاوز سوى 90 سنتيمترًا في حين بلغ طول يوان حوالى 126 سنتيمترًا».
تردف: «يوان فقد وعيه، وحاول أحد المدعوّين إسعافه قبل نقله إلى المستشفى حيث بقي تحت المراقبة 33 يومًا قبل انتقاله إلى السماء».
تؤكد باتريسيا أنّ يوان لم يقضِ غرقًا، وفق ما أُثْبِتَ علميًّا، «لأنّ دماغ الطفل يحتاج بين 7 و12 دقيقة حتى يُتلف تحت المياه بينما لم يتعدَّ الوقت الذي استغرقه بقاؤه في البركة 43 ثانية. حتى تلك اللحظة، يبقى سبب وفاته لغزًا محيّرًا لم تكشفه التقارير الطبّية بعد».
لا كلمات تعبّر عن الألم الذي يعصف بقلب الأمّ حين تفقد فلذة كبدها. باتريسيا ترى في غياب يوان جرحًا لن يندمل. تقول: «كانت حياة ابني مفعمة بالأمل والحيويّة، لكن في لحظة مأساويّة، انتهت تلك الحياة البريئة… ترك يوان وراءه فراغًا لا يسدّه شيء». كيف للأمّ أن تحتمل هذا الألم؟ كيف يمكنها مواجهة الأصباح من دون أن تلمح وجه ابنها المبتسم أو تسمع ضحكاته الطفوليّة؟…
حضور الله والعزاء الحقيقي
من جهته، يؤكد والد يوان وسام شمّاس: «بعد انتقال ابني إلى الملكوت، نعيش السماء على الأرض. بين الإيمان والكفر، ثمّة خيط رفيع. نحن اخترنا طريق الإيمان والرجاء، على الرغم من الحرقة التي ترافقنا حتى الرمق الأخير. أعتقد أن ربّنا منحنا أكثر من الوزنات الخمس، فحملنا هذا الصليب على قدر طاقتنا. الله هو المصدر الوحيد للعزاء الحقيقي. فالموت، رغم قسوته، يتحوّل في الإيمان المسيحي إلى جسر يعبره الإنسان نحو الحياة الأبديّة، حيث لا ألم ولا دموع، بل حضور الله المُشبع بالحبّ».
لماذا يوان؟ هل عاتبت العائلة الربّ وسألته يومًا عن سبب اختياره يوان؟ يجيب شمّاس: «كلا. لم نعاتبه أبدًا، لكننا نشتاق إليه كثيرًا. إذا وجّهنا اللوم إلى الربّ، كيف نجسّد “لتكن مشيئتك؟”. ما أطلبه من ربّي إيضاح رسالته لنا. ثمّة علامات بدأنا نلمسها عن حضور الله بعد انتقال يوان. في فترة مكوثه في المستشفى، ألهم المحيطين به إذ ارتدّت نفوس كثيرة إلى الإيمان والصلاة بفضله».
يوان… طفل الـ33
كيف شعرتم بيد الله تنشلكم من هذه الفاجعة المؤلمة؟ يجيب وسام: «في أثناء وجودنا في المستشفى، شعرت بسلامٍ داخلي فائق الوصف. عشت تناقضًا وصراعًا غريبين إذ تأكدت من اللحظة الأولى بعد الحادثة أنّ يوان سيُغادرنا. ثمّة إشارات سماويّة حصلت في المستشفى قمنا بتوثيقها في كتاب بعنوان: “يوان طفل الـ33″».
حكاية إيمان وثورة صلاة
اجتمع المئات على الصلاة لأجل يوان في خلال غيبوبته الملائكيّة في المستشفى، على مدى 33 يومًا قبل انتقاله. وارتفعت الصلوات في لبنان وكل أنحاء العالم من أجله. يقول وسام: «فقدان يوان زادنا إصرارًا على التأمّل والصلاة. وتقديرًا منّا لوقوف الناس بجانبنا، قرّرنا إكمال مسيرة يوان “حكاية إيمان وثورة صلاة” كل ثلاثاء عند السابعة مساءً، حيث يلتئم محبّو ملاكنا الصغير على تلاوة المسبحة في منزل أهلي في نيو روضة».
في الختام، يشكر والدا يوان الربّ عبر «قلم غار» على حضوره الدائم في حياة أسرتهما، وعلى نعمة يوان التي حوّلت هذا المُصاب الأليم إلى قصّة إيمان ورجاء، قائلَيْن: «الآن، بدأت الحكاية…».
-يتبع-