الأب طوني كعدي
لبنان، ذلك البلد الجميل الذي يختلط فيه الحلم بالواقع، العابق برائحة البحر وأصوات الجبال، شهد تاريخًا طويلًا من المعاناة والصمود. في قلب هذا البلد المتنوّع، حيث يلتقي الشرق بالغرب، تبقى قيم التعايش والتضامن مصدر قوّة وحياة له. لكن الأرقام التي نراها اليوم حول الوجود المسيحي في لبنان تطرح سؤالًا مؤلمًا: هل يكفي عدد المسيحيين للمحافظة على هذا الوطن الجميل؟ وهل يمكننا بناء وطنٍ من الأرقام فقط أم أنّ روح التضامن والتعاون تمنحه الحياة والوجود؟
بين الأرقام والأمل
تشير الأرقام الأخيرة التي نشرتها اليوم ستاتيستيكس ليبانون (بالتعاون مع أم تي في) إلى أنّ نسبة المسيحيين في لبنان قد انخفضت في السنوات الأخيرة بسبب الحروب والهجرة إلا أنّ حضورهم لا يزال قويًّا، كما يثبت ذلك وجودهم في مختلف المناطق اللبنانيّة. لكن هذا الوجود الذي يقدّر بنحو 45% من الأراضي يبدو كأنّه يسير على حافة الخطر. على الرغم من كلّ ما مرّ به لبنان من أزماتٍ، لا يزال المسيحيّون في قلب المجتمع اللبناني، متمسّكين بالأرض والعادات والإيمان الراسخ.
أمّا على مستوى الإدارات الحكوميّة، فقد أظهرت الأرقام انخفاضًا في نسبة الموظفين المسيحيين، على الرغم من أنّهم يشكّلون 31% من إجمالي الموظفين في الدولة. هذه الأرقام، وإن كانت تعبّر عن تراجعٍ في بعض المجالات إلا أنّها تحمل في طيّاتها دعوةً لنا جميعًا للوقوف معًا في وجه التحدّيات. فلن يكون عدد المسيحيين في لبنان العامل الحاسم في تحديد مستقبل هذا الوطن، بل تكمن القوّة الحقيقيّة في التعاون بين جميع فئات المجتمع في الاحترام المتبادل وتوحيد الجهود نحو بناء وطنٍ يحتضن الجميع.
القوّة في التعاون
ما يميّز لبنان ليس فقط تنوّعه الديني، بل روح التعايش والتعاون التي يجب أن تظلّ نابضة في قلوبنا. في هذا الوطن، لا تكفي الأرقام لبناء مجتمع قويّ بل يجب أن نركّز على القيم التي تمنحه روحه الحقيقيّة: التضامن والاحترام المتبادل والعطف على بعضنا البعض في مواجهة التحدّيات. فلقد شهدنا في تاريخ لبنان كيف استطاع أبناؤه من مختلف الطوائف أن يتوحّدوا في لحظات الأزمات، وأن يقفوا جنبًا إلى جنبٍ من أجل مصلحة هذا الوطن الذي لا يقبل إلا الوحدة في التنوّع.
دعوةٌ إلى الأمل والعمل المشترك
يجب ألا نتوقف أمام الأرقام التي قد تُظهر أحيانًا تراجعًا في الوجود المسيحي في لبنان، بل يجب أن نرى في ذلك دافعًا لنعمل معًا بكلّ قوّتنا لنحافظ على وطننا. هذا التحدّي ليس دعوةً لليأس، بل هو دعوة للصحوة والعمل الجماعي لإيجاد حلولٍ عادلة. علينا أن نعزّز حضور المسيحيين في المؤسسات العامة، وأن نخلق مساحةً أكثر للعدالة والمساواة لأنّ لبنان يظلّ ملكًا لجميع أبنائه، بكلّ تنوّعهم.
بناء لبنان من جديد
لبنان ليس مجرّد أرقام في سجلات الإحصاءات، بل هو وطن مليء بالقيم الإنسانيّة، وبالقوّة التي تستمدّها من تجارب شعبه. اليوم، نواجه تحدّياتٍ كبيرة، لكن في قلب كلّ لبناني، تكمن روحٌ عظيمة من الأمل والعزيمة. فلنقف معًا، مسيحيين ومسلمين، لبناء وطنٍ تسود فيه قيم العدالة والتضامن والتعايش الحقيقي. معًا، يمكننا أن نكتب فصلًا جديدًا من تاريخ هذا الوطن الذي لا يزال يحلم بالبقاء والنموّ والازدهار.