إلسي كفوري خميس
على كتف وادي قنّوبين، يقع محترف النحّات اللبناني العالمي نايف علوان، حيث أبدعت يد الخالق في صنع لوحة طبيعيّة خلابة، لها الأثر الأكبر في تنمية موهبته.
كيف لا، وتلك الجنّة، بجبالها وخضرتها وهوائها النقي، قادرة على تصفية الذهن وتحفيز الخيال، فيولد الفنّ والإبداع.
كالمرنّم الذي تسكر الأذن بنغمة صوته، تنطق منحوتات علوان صلاةً وقداسة، فتعشقها العين حتى الثمالة.
من بلدته أيطو الشماليّة، انطلق إلى العالميّة. أكثر من ألف منحوتة انتشرت في أرجاء المعمورة، من أستراليا إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، فكندا، والبرازيل، وفيينا، وجنوب أفريقيا، ودول أخرى لا يتّسع المقام لذكرها، مجسّدةً صورة وطن لا يموت، ولا يزال يخلق العباقرة والمبدعين ويصدّرهم.
لم يبخل علوان على لبنان، فأغناه تماثيلَ قديسين، وشخصيّاتٍ لبنانيّة، ونسّاكًا، ورهبانًا، وبطاركة. وخصّه بأكبر تمثال لمار شربل في العالم، نُصِبَ على تلّة الصليب في فاريا، بارتفاع 23 مترًا.
صاحب الموهبة الإلهيّة النحّات اللبناني العالمي نايف علوان تحدّث لـ«قلم غار» عن سرّ إبداعه، وعن مسيرة غنيّة بالبركات والكنوز السماويّة.

العيش وفق وصايا الله
يؤكد علوان أنّ حضور الله دائم في حياته، قائلًا: «الله موجود في كل ثانية من حياتي، في كل عمل أقوم به، في محبّة الناس، في كل مساعدة أقدّمها».
ويضيف: «علاقتي بالربّ بعيدة عن التكلّف، خالية من التعقيد وقريبة من البساطة. أنا أتعاطى مع الآخرين انطلاقًا من وصيّة المسيح: “افعلوا للناس ما أردتم أن يفعلوا الناس لكم”. التصرّف وفق هذه القاعدة صلاة بالنسبة إليَّ. بقدر ما نكون طبيعيين في حياتنا، ومتواضعين، وقريبين من البساطة أكثر، ونعيش سلامًا داخليًّا، نكون أقرب إلى الله».
يشدّد علوان على أنّ الجميع يمرّون بصعوبات ويتمنّون تحقيق ما يصبون إليه، مشيرًا إلى أنّه لمس حضور الربّ جليًّا حين «لا تسير الأمور وفق ما نشتهي أو نتمنّى». يقرّ بأنّه عاتب الله كثيرًا، لكنه أدرك «بعد فترة وجيزة أنّ الربّ أقفل هذا الباب ليفتح لي أبوابًا أخرى، وأنّ ما كان سيحصل لم يكن لصالحي. الله يمسك بيدي ويمنعني من السقوط».

موهبة مصقلة بالإيمان
يكشف علوان لموقعنا سرّ تميّزه ووصوله إلى العالميّة. يُرْجِعُ الفضل إلى «الله ونعمه» التي أغدقها عليه، قائلًا: «الربّ ميّزني بموهبة جميلة. أنا استثمرت تلك الوزنة. صقلت موهبتي بإيمان عميق وبجهد كبير، وبوعي أنّ ما منحني إيّاه الربّ لا يمكن أن أفرّط به، وبأنّ عليَّ أن أستفيد منه وأفيد بالمقابل البشريّة جمعاء».
يعترف بأنّه لم يدرس فنّ النحت، مؤكدًا أنّ «الدروس هي نظريات فقط، إنّما التطبيق هو الأصعب ويحتاج إرادةً وتمرينًا». يضيف: «الربّ أنعم عليَّ ببيتٍ شبه فنّي. كان الوالد يعمل في مجال البناء الهندسي، وكانت له محاولات بسيطة في النحت. منه تعلّمت التقنيّات وكيفيّة التعامل مع المطرقة والإزميل منذ الصغر. الإطّلاع أساسي أيضًا لكن الموهبة هي الركيزة الجوهريّة. الإيمان والصدق والإحساس ثلاثيّة أوصلتني إلى المرحلة الحاليّة.
يجزم علوان بأنّ التأثير الأكبر الذي تجلّى في موهبته تمثّل في الموقع الجغرافي حيث يعمل في قلب الطبيعة. يخبرنا عن حادثة حصلت معه في روما في أثناء مباركة الحبر الأعظم تمثال القديسة ريتا، قائلًا: «سألني البابا فرنسيس: كيف استوحيت وجه القديسة المشعّ قداسةً وصلاة؟»، فكان جوابي: «ألهمتني طبيعة وادي قنّوبين». وأردف: «أستمدّ الوحي من جمال هذه الطبيعة وغناها ومداها وأكتسب منها. هي الأساس في فنّ الإبداع والابتكار».

قلبٌ ينقل الإحساس إلى الحجر
يروي علوان اللحظات التي تسبق نحت التمثال. نسأله في هذا السياق: «هل من صلاة معيّنة قبل المباشرة بالعمل؟». يجيب: «الصلاة هي فعل إيمان بالنسبة إليَّ. عندما نتمنّى الخير لجميع الناس، ولا نحمل الضغينة تجاه أحد، ونتحلّى بالنيّة الصافية، فذلك بمثابة صلاة تساعدني في عملي وفي حياتي اليوميّة».
ويتابع: «لا شك في أنّ الأفكار تتوارد وتحضر فجأةً في أثناء النحت. التركيز هو المهم من أجل دقة العمل. كل صباح بعد الاستيقاظ من النوم، أجلس مع ذاتي ومع أفكاري، وأتأمّل في المنحوتة التي أنوي صنعها. عندما يتمتّع القلب بسلامٍ صافٍ، لا بدّ أن يبدع الإنسان بأفكاره».
يشدّد علوان على أهمّية السلام الداخلي لإنجاز عمل ناجح. ويردف: «ما في داخلي يتجلّى في الحجر الذي أطوّعه، فيظهر كأنّ الحياة نُفِخَت فيه. العمل لا يقتصر فقط على العدّة الكهربائيّة أو المطرقة والإزميل، إنما القلب يدخل في ثنائيّة العقل واليد لينقل الإحساس إلى العمل، فيضفي إليه الصفاء والسلام».

تمثال حيّ
يؤكد علوان أنّ تماثيله بمثابة «عائلته»، ولا يمكن أن يختار واحدًا مفضّلًا لأنّ «كل تمثال له شخصيّته ورمزيّته». ويلفت إلى أنّ العبارة الأجمل التي يسمعها من الناس بعد كل عمل هي أنّ «التمثال يجعلنا نصلّي بخشوع»، و«هذا دليل على أنّني أوصلت الرسالة».
أمّا عن التمثال الذي ترك أثرًا عميقًا في النفوس، فيقول: «تفاعل كثيرون مع تمثال القديسة رفقا على فراش الألم. ربّما لأنّهم لم يعتادوا على رؤية تمثال قديسة مستلقية على الفراش. فمنهم من رآها تتنفّس، أو تبكي، ومنهم من لمس يدها وشعر بدفئها. التمثال يعبّر عن واقع القديسة، وقد جسّدته بطريقة يمكن أن يرى الناس في وجهها الألم والفرح والسلام في الوقت عينه».
يعتبر علوان أنّ الفنّان يسكب من ذاته في عمله بطريقة لاشعوريّة. ويؤكد أنّ «من يتأمّل تمثال يوحنا الحبيب الذي صنعته في العام 1995، والموجود في بيت القديس شربل في بقاعكفرا، يراه يشبهني لا بل نسخة عنّي، كما يقول الجميع».

مار مارون في أستراليا
يقوم علوان حاليًّا بالعمل على توثيق منحوتاته التي تخطّت الألف منحوتة موزّعة في مختلف دول العالم، مُرْجِعًا الفضل في هذا الإنتاج الغزير إلى شقيقه ريمون الذي يساعده في محترفه.
ويكشف لموقعنا عن مشروع جديد عبارة عن مزار لمار مارون، يجمع قديسي الطائفة المارونيّة، سيُشَيَّدُ في مدينة سيدني الأستراليّة التي شهدت ظهورات لمريم العذراء واحتضنت مزارات من مختلف أنحاء العالم. ويشير إلى أنّ العمل سيكون «مشابهًا لتمثال مار مارون في بكركي، وفيه كل الرمزيّة المارونيّة».
ويختم علوان حديثه لـ«قلم غار» بشكر الربّ على كل شيء، قائلًا: «أحمده على كل نسمة هواء أتنفّسها. ولا يمكن أن أتوقف عن شكره، فهو الذي ميّزني عن الآخرين وخصّني بموهبة في سبيل تمجيده».