أكد متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عوده، في أحد القيامة الذي ترأسه في كاتدرائية القديس جاورجيوس، أنه يرفع الصلاة من أجل أن يقوم لبنان من تعثّره ويسترجع دوره ورسالته، مشدّدًا على ضرورة تأليف حكومة فاعلة ومُصْلِحة تُعيد الحياة إلى مؤسسات الدولة وأجهزتها، وتكسب ثقة المجتمع الدولي.
وجدّد المطالبة بإعادة الحقّ إلى أصحابه، وكشف المجرمين والسارقين والمتعدّين على الحقوق.
وألقى المطران عوده عظة قال فيها:
“أحبّائي، ها قد وصلنا إلى ميناء القيامة الآمن، حيث ينتفي الألم والموت، وتزهق الشياطين، وتفرغ القبور، وتزهر الكنيسة مبتهجة بعيد الأعياد وموسم المواسم، إذ إن المسيح حقًّا قام، ونحن نجونا من الخطيئة وموتها. بقيامة المسيح، السماوات تفرح والأرض تتهلّل بواجب اللياقة، والعالم المنظور وغير المنظور يعيد كله، لحصوله على السرور المؤبّد الحاصل بإشراق المسيح من القبر.
قيامة المسيح هي أعظم الأحداث التاريخيّة، وهي تميّز المسيحية عن سائر الأديان. رأس الكنيسة هو المسيح القائم. يعلن الرسول بولس بوضوح: إن لم يكن المسيح قد قام، فباطل إيمانكم (1 كو 15: 17). اليوم المسيح كسر أبواب الجحيم وأمخالها، وأقام معه المائتين منذ الدهر. لقد نزل المسيح إلى الجحيم ليقيد الشيطان، فجعله بلا سلطان على البشر. انحدر المسيح إلى أقصى دركات الأرض، حيث الظلام الدامس، فملأ المكان من نوره، حالًّا ظلمة الموت. لهذا نسمع في قانون الفصح الذي رتّلناه صباحًا: “إن البرايا بأسرها قد استوعبت الآن نورًا، السماء والأرض وما تحت الثرى”.
يدعى يوم القيامة “فصحًا”، أي “عبورًا”، لأن المسيح إلهنا قد أجازنا من الموت إلى الحياة، ومن الأرض إلى السماء. هذا العام، ربما نعرف طعم القيامة بشكل أفضل، بعد ما مرّت به البشرية بأسرها من ويلات بسبب الوباء الذي تفشى عالميًّا، حاصدًا ملايين الأرواح. أما في بلدنا، فإلى جانب الموت الوبائي، عشنا تفجيرًا، أزهق الأرواح البريئة، ويتّم الأطفال، ورمّل النساء والرجال، وشرّد الآلاف. واليوم، كم نحن بحاجة لتذوّق حلاوة القيامة! لكن، بما أن المسيح قد قام، فمؤكد أننا سنقوم أيضًا، لأن الموت لن يتسلّط علينا فيما بعد وقد سحق المسيح قدرته.
نسمع في إنجيل اليوم كلامًا على الكلمة أي المسيح فاتح باب الفردوس: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وإلهًا كان الكلمة. … كل به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. به كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور في الظلمة يضيء، والظلمة لم تدركه”. يحدّثنا المقطع الإنجيلي أيضًا عن يوحنا المعمدان، الصوت الصارخ في البرّيّة، الذي شهد للكلمة، شهد للنور، وكلنا نعرف أن شهادته التي لا مواربة فيها ولا محاباة، أدّت إلى قطع رأسه.
الكلّمة، يا أحبّة، مهمة لدرجة أنها أصبحت صفة لسيّدنا، الربّ يسوع المسيح. كلمة المسيح كانت سيفًا مسلطًا تجاه مسؤولي ذلك الزمان، ومتقدّمي الشعب، لذلك أمروا بأن يمسك ويصلب، لكنهم لم ينتبهوا لما كان يقوله عن القيامة، ففاجأهم وقام من القبر المختوم بحجر عظيم، ولكي لا يظهروا صغارًا أمام الشعب، قاموا برشوة الحرّاس ليشهدوا أنه لم يقم، بل سرق ليلًا وهم نائمون. فإذا كان سيّدنا، إله السماء والأرض قد احتمل كل تلك الأمور الشنيعة ممن كانوا يعتبرون أنفسهم مسؤولي الشعب، إذًا فإنه وسام على صدورنا إن أراد المنزعجون من كلمة الحقّ أن يتمثلوا بالفريسيين جاعلين إيانا نتمثل بمسيحنا المتألم القائم من موت الحقد.
فريسيو ذلك الزمان كانوا يتحدثون عن الله، لكنهم صلبوا ابنه، لأن كلامه أزعجهم. في زماننا، يطالعنا البعض بنظريات يلبسون المسيح فيها صورًا على مقاسهم، ويأخذون من الإنجيل الحوادث التي تناسبهم، فيعيثون فسادًا في عقول الشعب، ويطالبوننا بألا نتدخل في شؤون حياة أبنائنا، وألا نضيء على الخطأ، وألا نتألم مع المتألمين، وألا نكون صوت من لا صوت لهم. ترى، هل يقتصر دور الأب في البيت على العمل والمجيء بالطعام واللباس؟ أما إذا تعرّض أبناؤه للأذى، فإنه ينأى بنفسه ويقول: هذا ليس عملي؟ من لا يتحمل وقع الكلمة التي تضيء على الخطايا تجاه أبناء الله، كيف سيتحمل الدينونة الأخيرة أمام الربّ القائم والمنتصر؟
في سفر أيوب نقرأ: “عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا سأمضي إلى هناك… الربّ أعطى والربّ أخذ… فليكن اسم الربّ مباركا إلى الأدهار” (1: 21). لو يدرك الإنسان أنه لن يحمل معه سوى ذكراه الطيبة وأعماله المباركة لتغيّر وجه الكون.
يا أحبّة، فيما كنت أتصفح كتابًا لفتتني أبيات للشاعر المعروف أحمد شوقي في مدح لبنان، فحزنت لما وصل إليه هذا البلد الذي تغنّى به الشعراء، وأنشده المغنّون، وحسده الجيران والأبعدون. أرض صغيرة حباها الله كل النعم والجمالات، واعتنق أبناؤها الحرية والثقافة والإبداع، وكانت ملتقى الحضارات وتفاعل الأديان، فإذا بها الآن غابة مقفرة محاصرة معزولة عن العالم، يعشش فيها الفساد ويحكمها اليأس وانسداد الأفق.
حالتنا ليست ابنة يوم أو سنة. فقد تراكمت الأخطاء وتجذّرت السيئات حتى فقد لبنان مقوّمات بقائه، فانفجر الشعب في 17 تشرين وعبّر عن الغضب الشديد المكتوم. ثم جاءت كارثة المرفأ لتزيد السواد سوادًا، فتدهورت الأوضاع بشكل جنوني، ولم تعد المشكلة ماليّة اقتصادية وحسب بل أصبحت وجودية لأن من يتولون أمور البلد يغامرون بالقليل المتبقي منه من أجل تأمين مصالحهم، والحفاظ على مكتسباتهم، والاستمرار في مواقعهم على جثة الوطن والمواطنين. حتى الجراد جاء يأكل مزروعاتنا ويحرم منها من لم يعد بإمكانهم شراؤها. أما تلك المعدّة للتصدير، فأغلقت دونها الأسواق لأن البعض أرادوا لبنان بعيدًا من إخوته ومحيطه، فجعلوه معبرًا للممنوعات التي تفسد العقول وتجني على من يتعاطون بها.
رفض الأسواق العربيّة منتوجاتنا الزراعية يزيد الخناق علينا ويلحق الضرر بالمزارعين. أملنا أن تتخذ إجراءات فعليّة حازمة تحول دون مقاطعة المنتجات اللبنانية، وأوّلها رقابة مشدّدة على المعابر الحدودية، ورفع الغطاء عن كل مروّجي أو مهرّبي المخدّرات، ومعاقبتهم مهما كان دينهم أو انتماؤهم.
في هذا اليوم الذي نصرخ فيه المسيح قام نصلّي من أجل أن يقوم لبنان من تعثّره ويسترجع دوره ورسالته. ولكي يقوم نحن بحاجة أوّلًا وقبل كل شيء إلى حكومة فاعلة تقوم بالإصلاحات الضرورية، وتعيد الحياة إلى مؤسسات الدولة وإداراتها، وتفعّل أجهزة الرقابة، وتفرض هيبة الدولة والقانون وتكسب ثقة المجتمع الدولي.
نحن بحاجة إلى حكومة لا تسيطر عليها الأحزاب المتناحرة، بل يكون أعضاؤها من أصحاب الاختصاص الناجحين في أعمالهم، المجلّين كلٌّ في حقل اختصاصه، غير طامعين بمكاسب ونفوذ، بل مريدين خدمة وطنهم ووقف انهياره وإصلاح إدارته.
نحن بحاجة إلى حكومة تنتزع ثقة الشعب بإنجازاتها وأوّلها مصارحة الشعب بالحقيقة، حقيقة انفجار المرفأ، والحقيقة حول وضع البلد المالي، وما مصير ودائع المواطنين وجنى أعمارهم، ومن تسبّب في اندثارها، والحقيقة حول تهريب المحروقات والمواد الغذائية المدعومة بمال الشعب، ووضع المعابر والجمارك والانفلات على الحدود.
نحن بحاجة إلى حكومة تفرض القانون وتحاسب، تقتص من كل من يتطاول على هيبة الدولة وعلى المال العام، ومن يقوم بالاغتيالات، وكل من يشوّه وجه لبنان بجعله مصدرًا أو معبرًا للممنوعات، وكل من يستغل مركزه أو نفوذه لتهريب ثروات اللبنانيين ومنتوجاتهم بطرق غير شرعية.
نحن بحاجة إلى حكومة تكافح الفساد بالفعل لا بالشعارات، وتحفظ حقوق الناس، كل الناس، وكراماتهم، وتمنع أي تعدٍّ على المواطنين، كل المواطنين بلا تمييز، وبخاصة الإعلاميين، كل الإعلاميين، لأننا لا نميز بين خلائق الله المتساوية في الكرامة.
نحن بحاجة إلى حكومة تنقلنا من الحضيض إلى حياة كريمة ينال فيها المواطن حقوقه بلا منّة من أحد، ويقوم بواجباته بفرح وثقة بدولته العادلة المستقوية فقط بجيشها الساهر على أمنها، وبقضائها المستقل الذي يحكم باسم الشعب، لا باسم فئة أو حزب أو طائفة.
وللغيارى على مصالح الناس وأموالهم نقول إننا أكثر حرصًا منكم عليها، ونحن لم نتوقف يومًا عن المطالبة بإعادة الحقّ إلى أصحابه، وبكشف كل مجرم بحقّ المواطنين، وكل سالب لأموالهم أو متعدٍّ على حقوقهم. وللوصول إلى هذا الحق، نحن بحاجة إلى قضاء متحرّر من السياسة ومن كل ارتباط، ليحكم بالحقّ والعدل والنزاهة وعدم التمييز.
نسأل الله أن ينير قلوب الجميع، ويزرع فيها محبّته لكي يعمل الجميع معًا بقلوب نقيّة ونفوس طاهرة وأيد متشابكة من أجل خلاص وطنهم. نسأل الربّ القائم من بين الأموات القيامة لبلدنا الحبيب لبنان، ولجميع اللبنانيين، من موت الفساد المستشري، خصوصًا موت الأخلاق، لأن من فسدت أخلاقه يفسد غيره. فلا تكونوا مماثلين لحرّاس القبر المرتشين والقائلين بعدم القيامة، بل قوموا من الحفرة وانفضوا غبار الخطيئة، والبسوا ثوب القيامة البهيّ.
صلاتنا أن يبارك الربّ الإله بلدنا وبنيه ويبلسم جراح المتألمين، ويعزّي قلوب المحزونين ويفكّ أسر المخطوفين. كما نسأل الحرية من لدن الربّ لأخوينا المطرانين بولس ويوحنا في الذكرى الثامنة لاختطافهما. نصلّي أن يعيدهما إلينا سالمين، فيكون الفرح العظيم. بارككم الربّ، مشرقًا نوره القياميّ في حياتكم، آمين”.