دعاء حمصي فرح
«إنّ القرب من الله ينبوع خدمة الأسقف» (مقتطف من كلمة ألقاها البابا فرنسيس في 12 أيلول 2019).

ليست سهلة لململة أوراق العمر، بحلوها ومرّها، وتوضيبها في شريط يحمل في سطوره مفترقات مهمّة تساهم في تكوين الشخصيّة، وتغنيها بما يفيد الأهداف المرجوّة.
وُلِدَ في 15 نيسان 1969 في بيروت. تلقّى دروسه الابتدائيّة في مدرسة الحكمة-جديدة المتن، ثم المتوسطة والثانويّة في مدرسة دير الشرفة-درعون، حريصا. ونال إجازةً في الفلسفة واللاهوت من كلّية اللاهوت الحبريّة من جامعة الروح القدس-الكسليك عام 1993، وإجازةً في القانون الكنسي والمدني من جامعة الحكمة-بيروت عام 2000، ودكتوراه في القانون الكنسي من جامعة اللاتران الحبريّة في روما عام 2003. هو أستاذ مادة القانون الكنسي في جامعتَي اليسوعيّة والحكمة.
رُسِمَ كاهنًا في 18 تمّوز 1993، بوضع يد البطريرك مار إغناطيوس أنطون الثاني حايك، في دير سيّدة النجاة-الشرفة. وتولّى خدمة رعيّة سيّدة البشارة للسريان الكاثوليك-المتحف-بيروت منذ عام 1993 حتى تاريخه.
يشغل حاليًّا رئاسة خمس محاكم كاثوليكيّة في لبنان، ورئاسة اللجنة الأسقفيّة للحوار المسيحي-الإسلامي. ويمثّل مجلس البطاركة الكاثوليك في المؤتمر القرباني في لبنان. ويقدّم منذ عام 2015 سلسلة حلقات تلفزيونيّة عن الإرشاد المسيحي.
إنّه النائب البطريركي لأبرشيّة بيروت للسريان الكاثوليك المطران شارل ماتياس مراد الذي يشارك «قلم غار» شهادة حياته ومسيرته الغنيّة بالتفاني والإيمان العميق، مؤكدًا أنّ الكهنوت رسالة حياة.

-كيف تصفون حضور الله في حياتكم منذ الطفولة والمراهقة، وصولًا إلى اكتشاف الدعوة الكهنوتيّة؟
-في الثانية عشرة من عمري، بدأتُ أشق مسار دعوتي. كانت محطتي الأولى في كنيسة مار سركيس وباخوس في الجديدة التي كنت أتردّد إليها كل صباح في خلال توجّهي مع أشقائي إلى مدرسة الحكمة القريبة من المنزل. التزمت خدمة قداس خوري الرعيّة الأب الراحل يوحنا يشوع الخوري، عند السابعة والنصف صباحًا قبل أن ألتحق بالصّف عند الثامنة. وكنت أغتنم الفرصة يوم السبت للدخول إلى السكرستيا لتنظيف الشمع وإعداد المبخرة، ما أشعرني بمزيدٍ من المسؤوليّة، وزادني ثقةً لتلاوة الرسالة في القداس.
-كيف نمت بذور الدعوة في حياتكم؟ ما دور عائلتكم؟
زرع أهلي بذرة الله في قلبي، ونشأتُ منذ طفولتي على مرافقة والدَيَّ إلى القداس. فنمت هذه الشرارة، وأزهرت إيمانًا والتزامًا في الكنيسة.
في تلك الفترة، برزت رغبتي في الدخول إلى الدير. وأخبرت الأب يوحنا يشوع الخوري عنها، لكنه ظنّ أنّني ماروني، فاقترح أن أذهب إلى إكليريكيّة غزير. عندما علم أنّني سرياني، أرشدني إلى دير الشرفة في حريصا. لم يلقَ الأمر قبولًا عند أهلي لصغر سنّي. لكن مع مرور الوقت، وبعد تدخُّل المطران أنطوان بيلوني، عادوا ووافقوا على دخولي الدير، علمًا بأنّهم راهنوا على عودتي بعد شهر لصعوبة التأقلم مع حياة الدير.
ما إن وطأت قدماي مدخل الدير، أدركتُ أنّه مكاني. وانطلقتُ بمسيرتي التعليميّة من مدرسة الدير إلى جامعة الكسليك لدراسة اللاهوت والفلسفة. ثم ارتسمت كاهنًا في العام 1993.

-كيف تجاوزتم الشكوك في دعوتكم في تلك الفترة؟
عشنا حياةً طبيعيّة في الدير، ولم نُحْرَم من أيّ شيء، حتى من المشاوير، في ظلّ إدارةٍ قاسية نسبيًّا؛ كنا نذهب إلى المدرسة التي ارتادها تلامذة من درعون وحريصا وغوسطا ورعشين، وكنت أزور أهلي في عيدَي الميلاد والفصح وفي العطلة الصيفيّة.
عندما انتقلت إلى رتبة الشمّاسيّة في الجامعة، عشت سنّ المراهقة كسواي من أقراني. اتسعت دائرة معارفي، وتطوّرت علاقاتي مع الشبيبة. ونمت مشاعري كأيّ شاب، لكن لم تنتابني بتاتًا أيّ رغبة بالتراجع أو التخلّي عن الدعوة حتى إنّني لم أتساءل يومًا إذا كنت سأتزوّج أم لا. فثبت قراري في مسيرة الكهنوت في الرابعة والعشرين من عمري.

-يوم الرسامة الكهنوتيّة مهّم في حياة الكاهن، كيف تصفونه؟
كانت رسامتي الكهنوتيّة في 18 تمّوز 1993، وهي نقطة تحوُّل، ونتاج قرار مهمّ اتّخذته بالالتزام مع الربّ. كما تأثرت برغبة والدي الراحل الذي لم تسعفه الظروف في أن يكون كاهنًا كما أمل، فاعتبرني أحقّق ما لم يستطع تحقيقه. أردتُ أن يزرع هذا اليوم الكهنوتي الفرح في قلب والدي الغالي.
قبل اتخاذ قراري النهائي، شاركتُ في رياضة روحيّة كهنوتيّة في أحضان دير مار موسى الحبشي بالنبك في سوريا، حيث قضيت أسبوعًا من التأمّل والصلاة في مغارة، برفقة مرشدي الأب باولو دالويلو؛ راجعت نفسي وتأكدت من قراري. طلبت من الله أن يرشدني، وكنت مستعدًا للتراجع حتى قبل يوم من الرسامة، إذا لم يوجّهني خياري نحو الطريق الصحيح. لكنني شعرت بالسلام الداخلي، وأكملت المسيرة بثقة. وهي نعمة كبيرة أعطاني إيّاها الربّ، ولم أشعر بأيّ تردّد حيال دعوتي.
-لماذا اخترتم البتوليّة؟
اختبرتُ الحبّ في شبابي إلا أنّني لم أشعر يومًا بالرغبة في الزواج.
فالكهنوت يتطلّب تكريسًا كاملًا، ولم أكن أريد تقسيم وقتي بين الكهنوت والخدمة العائليّة. كنت مقتنعًا بأنّ الله دعاني لأكون له بكلّيتي، وبأنّ الزواج والكهنوت دعوتان مختلفتان، فاخترت منهما الرسالة الكهنوتيّة عن قناعة تامة.
واستلهمت شعارًا من سفر المزامير: «ماذا أردّ إلى الربّ عن كل ما أحسن به إليَّ» (مز 116: 12)، و«بالحق والمحبّة» من تعاليم القديس بولس.

-من الكهنوت حتى الدرجة الأسقفيّة، كيف تختصرون هذه المرحلة؟
بعد رسامتي الكهنوتيّة، عُيِّنتُ في أيلول من العام 1993 مساعدًا لخوري كاتدرائيّة سيّدة البشارة في بيروت حيث عملت لمدّة سنة إلى جانب كاهنين عراقيين. ثم تولّيت في حزيران 1994 مسؤوليّة الكاتدرائيّة بشكل كامل.
في ذلك الوقت، كانت الكنيسة متضرّرة والرعيّة مشتّتة بسبب آثار الحرب. فبدأنا إعادة النهوض، وأسّست حركة مار شربل، وجوقة، وأخويّة، وخدمت الرعيّة بكل طاقتي، فكانت مرحلة غنيّة بالخدمة والعمل الرعوي. واستفدت من ملاحظاتي حيال الكهنة قبل سيامتي، محاولًا تجنّب الوقوع في الأخطاء نفسها.
ركّزت على الاهتمام بالمرضى، ووصل عدد الذين كنت أزورهم أسبوعيًّا إلى خمسين مريضًا، فقدّمت لهم القربان المقدّس وأصغيت إليهم. كانت هذه الزيارات تعني لي الكثير إذ كنت أعتبر كلمات الامتنان التي يوجّهها المرضى إليَّ بمثابة مكافأة روحيّة.

-هل علمتم مسبقًا بأنّكم ستنالون الدرجة الأسقفيّة؟
لم أفكر يومًا بأنّني سأصبح أسقفًا، على الرغم من أنّ البعض قال لي: «إن شاء الله نراك يومًا مطرانًا». لكنني آمنت بأنّ الله هو من يختار، وليس الطموح الشخصي.
-كيف انتُخبتم مطرانًا؟
في الكنيسة الكاثوليكيّة، يُنتَخب الأساقفة في خلال السينودس، حيث يجتمع مطارنة الطائفة لتحديد الأماكن الشاغرة وترشيح الأسماء المناسبة. يتمّ التدقيق في سير الكهنة، ثم تُرفع الأسماء إلى الفاتيكان لإجراء المزيد من التحقيقات السرّية حول المرشّح للأسقفيّة. تُرسَل استبيانات إلى أشخاص يعرفون المرشّح جيّدًا، من دون أن تُعرَف هويّتهم، ويُطلب منهم الإجابة عن مجموعة أسئلة.
بفضل الله، جاءت التقارير إيجابيّة، وصدر قرار تعييني في شباط من العام 2018.

-متى احتفلتم برسامتكم الأسقفيّة؟ كيف تصفونها؟
احتفلت برسامتي الأسقفيّة في 14 نيسان 2018، أي ليلة عيد ميلادي، في خلال قداس في كاتدرائيّة سيّدة البشارة، حضره أكثر من ألف شخص.
كانت لحظات مؤثرة جدًّا، بخاصة عندما ذكرتُ والدي في كلمتي، وبكيتُ تأثّرًا. لم أتمكّن من حبس دموعي، وتوجّهت نحو والدتي في خلال القداس لأقبّل يدها، كعربون شكر على كل ما قدّمته لي. فأنا أؤمن بأنّ ما وصلت إليه هو بفضل أهلي وتضحياتهم، وبنعمة الله التي رافقتني في كل مراحل حياتي.
ولقيت ترحيبًا من جموع المشاركين لأنّني كنت كاهنًا في الرعيّة منذ العام 1993، وقد رافقتهم في أفراحهم وأحزانهم، قبل أن أصبح أسقفًا.

-ما أبرز الخطوات التي قمتم بها من أجل تحسين الأبرشيّة؟
لم تغيّر الرتبة الجديدة تعاملي مع الناس، وحرصت على أن أبقى قريبًا منهم. أفرح عندما يناديني أبناء رعيّتي «أبونا شارل» لأنّني لا أريد أن أكون مجرّد أسقف، بل أرغب في أن أغدو أبًا لهم. أحرص على استقبالهم من دون مواعيد، وأزورهم في منازلهم، وألعب مع أطفالهم. تركيزي الأساسي ينصبّ على الإنسان لأنّني أؤمن بأنّ الدور الأوّل للأسقف يتجلّى في احترام الإنسان وخدمته.
-كيف تعاملتم مع الفروقات الاجتماعيّة في الأبرشيّة؟
-بالطبع هناك فروقات، سواء في الرعيّة التابعة لكاتدرائيّة سيّدة البشارة أم بين مختلف الرعايا. لكن الأهم هو أن نبقى على مسافة واحدة من الجميع، وألا يشعر أحد بأنّ هناك تمييزًا بين الغني والفقير. على سبيل المثال، في الزيجات أو الجنازات، يظن البعض أنّ المطران يحضر فقط في مراسم الأغنياء، لكنني عملت على تغيير هذا المفهوم. فكل مؤمن هو ابن الكنيسة، ويحق له أن يكون المطران حاضرًا في محطاته المهمّة، بغضّ النظر عن وضعه المادي.

-من شفيعكم بين القديسين أو القديسات في مسيرتكم الكهنوتيّة، وصولًا إلى الأسقفيّة؟
شفيعتي الأساسيّة هي القديسة ريتا. عندما أصبحت أسقفًا، اخترت اسم «ماتياس»، وهو الرسول الثالث عشر الذي انتُخب ليحلّ مكان يهوذا. أُعجبتُ بشخصيّته لأنّه لم يكن من الأسماء البارزة بين الرسل، لكنّه أدّى دورًا مهمًّا في نشر البشارة. عندما رُمّمت كاتدرائيّة سيّدة البشارة، أقمتُ كابيلا للقديسة ريتا فيها.

-بين الكهنوت والدرجة الأسقفيّة، كيف لمستم يد الربّ في أوقات الشدائد؟
لم أشعر يومًا بأنّ الله تخلّى عنّي أو بأنّه ليس معي، حتى في لحظات الضعف والفشل. رأيت يد الله تعمل في قراراتي. وأحيانًا كنت أتساءل كيف تمكّنت من اتخاذ خطوة معيّنة، لكنني أدرك لاحقًا أنّ النعمة الإلهيّة مرشدتي. الربّ الذي غمرني بنعمته واختارني، سيهتم بي، حتى لو قصّرت في بعض الأحيان، فإنّه يعود ليُمسك يديَّ ويعيدني إلى الطريق.

-ما الذي يقلقكم ويخيفكم؟ ما الذي يفرحكم؟
أكثر ما يقلقني هو عندما أشعر بأنّني غير قادر على مساعدة شخص يأتيني بثقة كبيرة، ويودعني أسراره وأوجاعه. أخشى أن يعود إلى دياره، وهو يشعر بالإحباط أو بأنّ الكنيسة لم تستطع مساعدته، ولا سيّما إذا كان يعاني من أزمة وجوديّة؛ لا أقصد المسائل المادّية، إنما الإنسان بحدّ ذاته، ومساعدته ودعمه.
من الطبيعي أن يقلق المرء، لكن لا يجوز أن يستسلم لمخاوفه. من هنا، أحاول أن أكون دائمًا أقوى من القلق.
-هل يمتد هذا القلق إلى مستقبل المسيحيين؟
بالتأكيد، هناك قلق كبير على المسيحيين في لبنان والشرق الأوسط. الكنيسة اضطلعت بمسؤوليّات الدولة في كثير من الأحيان بسبب غيابها، لكنها ليست قادرة على حلّ كل الأزمات بمفردها. وهي تختبر أيضًا القلق، بسبب ما يواجهه المجتمع المسيحي في لبنان أو في الشرق، وتقف عاجزة أمام التحدّيات. فالهجرة، مثلًا، على الرغم من الدعم البابوي والدعوات للتشبّث بالأرض، تمثّل مشكلةً كبيرة، فنحن لا نستطيع منع العائلات من المغادرة إذا لم يكن لدينا ما نقدّمه لها من أمان واستقرار.

-في حال تولّيتم دورًا قياديًّا أعلى في الكنيسة، ما الخطة التي تضعونها من أجل تعزيز مسيرتها؟
رتبتي قد تتغيّر، لكن أسلوبي في الخدمة لن يتغيّر. أؤمن بأنّ القداسة تنبع من الخدمة، وليس من المناصب. إذا منحني الله مسؤوليّة أكبر، يعني أنّه يثق بي ويكلّفني بمهمّة، فيجب عليَّ أن أكون مستحقًّا لثقته.
كل رتبة لها همومها وأسلوب عملها. وعلى قدر ما يهبك الربّ من أحمال، فإنّه يزوّدك أيضًا بطريقة العمل والتصرّف والإدارة.
إنّ الهمّ الأوّل والأخير هو «الإنسان». عندما يختارنا الربّ للخدمة، يختارنا للإنسان. وكما قال لمرتا: «تهتمّين بأمور كثيرة والمطلوب واحد» (لو 10: 41). ففي أوقات كثيرة، نهتم كإكليروس بالمشاريع، وننسى أن نعتني بالإنسان. وأنا أطلب دومًا من الربّ تذكيري بأنّ دعوتي تتجلّى مع الإنسان.

-ختامًا، علامَ تشكرون الربّ؟
أشكر الله على كل ما أعطاني إيّاه من نِعَم. بفضلها، أصبحت ما أنا عليه اليوم. لا أندم على شيء، وبتُّ أتحلّى بالوعي لتجنُّب الأخطاء الماضية. أحمد الله على الاختبارات التي عشتها، الإيجابيّة والسلبيّة، للقيام برسالتي الكهنوتيّة.
