غيتا مارون
سُئِلَ الأب نقولا كلويترز قبل استشهاده: كيف تربط بين العدالة والإيمان؟ فأجاب: «العدالة التي نحتاج إليها هي عدالة الإنسان المجروح وشفاء الروح واستعادة ثقة الإنسان بذاته. العدالة هي تليين القلوب المتحجّرة والحدّ من الكراهية، وبناء جيل جديد لبناء عالم أفضل»…
وثق الأب كلويترز بأنّ المسيح قادر على خلاص العالم من روح السلطة العمياء والعنف المدمّر. شخص واحد خلّصنا من الشرير سُمِّرَ على الصليب. لطالما شعر بأنّه يسأله يوميًّا: هل تتحلّى بالجرأة كي تتبعني من أجل خلاص البشريّة؟ كان ينظر إليه، ويجيبه بخجل: سأحاول بذل قصارى جهدي…
لا شك في أنّ الأب كلويترز غيّر مسار كثيرين وقادهم نحو القداسة. يسرّ «قلم غار» أن يشارك قراءه اختبار راعي أبرشيّة بعلبك-دير الأحمر المارونيّة المطران حنا رحمة لدى لقائه كلويترز.

نواة الدعوة
يخبر المطران رحمة الذي تشرّب في عيناتا الأرز سمات شخصيّته الصلبة وسطّر مسيرةً مكلّلة بالروحانيّة والتضحية والجرأة: «في السبعينيّات، توقّفت حافلة كانت تقلّ مجموعة من الملتزمين في الحركات الرسوليّة، ودعتني للانضمام إليها من أجل المشاركة في الصلاة في دير الأحمر.
لبّيتُ دعوة الشباب، والتقيتُ يومها بالمطران الراحل جورج إسكندر وبالأب اليسوعي نقولا كلويترز الذي قدّم لي صورة لمريم العذراء مبتسمًا، وباركني. فرحت بالصورة لأنّني حصلت على رمزي الديني الخاص. كان هذا الاختبار مهمًّا جدًّا في حياتي. المطران إسكندر علّمنا ترانيمَ روحيّة. تأثّرت بشدّة بالأسقف والكاهن. فكانت تلك النواة الأولى التي زرعها الله في قلبي لنموّ الدعوة».
يصف المطران رحمة لقاءه بالأب كلويترز، بتأثُّر، بأنّه «نواة الدعوة»، مشيرًا إلى أنّ هديّته ملأت قلبه بالحبور.
لمتابعة شهادة الحياة الملهمة التي خصّنا بها المطران رحمة حصريًّا، الرجاء الضغط على الرابط الآتي:
المطران حنا رحمة يشارك «قلم غار» مسيرةً روحيّةً عانقت صلابة الأرز في زمن التحدّيات

من هو الأب نقولا كلويترز؟
الأب نقولا كلويترز هو هولندي الأصل (1940-1985)، ترعرع في كنف أسرة متواضعة. تابع دراسته في معهد مهني، والتحق بأكاديميّة الفنون الجميلة في لاهاي. كان فنّ الرسم شغفه الكبير، وأصبح أستاذًا في هذه المادة. عاش صراعًا حقيقيًّا بين دعوته الدينيّة ورغبته في التخصّص بالفنّ، لكنه اختار التكرّس لله.
تعلّم اللغة العربيّة في لبنان، وحاز دبلوم معاون اجتماعي. كان عنيدًا جدًّا على غرار الهولنديين.
بعد رسامته الكهنوتيّة في هولندا، عُيِّنَ كاهنًا في دير اليسوعيين في تعنايل-البقاع. تمثّلت مهمّته في الاعتناء بالبقاع الشمالي: الهرمل، ودير الأحمر، والقاع، وإيعات، وحدث بعلبك، ووادي الرطل، ونبحا، والقدام، والزرازير، وبيت بو صليبي.
استأجر غرفة في الهرمل حيث لا وجود للمسيحيين كي يكون قادرًا على مساعدة الأهالي في كل المناطق. تميّزت حياته بالجدّية والتقشّف، وكان يزور تعنايل مرّة أسبوعيًّا كي يبقى على تواصل مع رفاق دربه اليسوعيين.
في العام 1973، تعرّف إلى سكان بلدة برقا؛ هذه القرية المسيحيّة التي بلغ عدد سكانها 1700 نسمة، وعُيِّنَ فيها كاهن رعيّة في العام 1977، فشجّع سكان البلدة على عدم النزوح منها. وأصبحت أولويّته بقاء المسيحيين في أرضهم ومنحهم الأمل في المستقبل.
سعى الأب نقولا إلى بناء مدرسة في برقا وحاول تشجيع إنشاء مدارس عدّة في المنطقة، وعمل على تنمية الزراعة عن طريق تطوير الريّ وإنشاء الطرق الزراعيّة، مشاركًا السكان في مهمّاتهم.
في العام 1980، صالح العائلات والعشائر التي عانت من الانقسامات، وتمّت المصالحة رسميًّا في حضور المطران اللبناني الراحل رولان أبو جودة ووجهاء العائلات، فكسب محبّة الأهالي.
أدرك الأب نقولا أنّ رسالته تكمن في أن يكون رجل مصالحة في قرية مسيحيّة محاطة بقرى مسلمة، من خلال زرع بذور الإيمان والمساعدة في الإنتاج.
تابع بناء مدرسة البلدة وقاعة الرعيّة ومنزل الكاهن. وتمّ توسيع الكنيسة، وتمكّن من افتتاح مشغل ومستوصف ومعمل للمنسوجات بالتعاون مع راهبات القلبين الأقدسين. ساعد الأهالي على إنشاء طريق زراعيّة للوصول إلى الأراضي المرتفعة للتمكّن من زراعة الفواكه. شكّل هذا الأمر خطوة إلى الأمام والشعور بالمسؤوليّة المشتركة والعمل والتضحية، فانطلقت مبادرات جديدة، منها وضع خطّة لبناء كنيسة مار شربل في الجبل وسط أشجار التفاح. وتبرّع الأهالي بالأموال اللازمة من أجل بنائها، فكانت كنيسة لكل الناس والعائلات من دون أيّ تفرقة.
في الجمعة العظيمة، نظّم الأب كلويترز درب صليب حيّ في البلدة بمشاركة جميع الأهالي، فوظّف شغفه بالفنّ من أجل تجميل نفوس البشر، ورسم لوحات رائعة، أجملها مراحل درب الصليب في برقا.
في المقابل، ولّدت هذه الخطوات الإيجابيّة والاتحاد مع الأهالي الغيرة والحقد، وزعزع عمله الأهداف السياسيّة المحلّية…
خُطِفَ الأب نقولا، وتعرّض لأقسى أنواع التعذيب، ونال إكليل الشهادة في 14 آذار 1985، وعُثِرَ على جثمانه في بئر بعد مرور 15 يومًا على وفاته.
من أجل تفادي المشكلات وعدم الانتقام، دُفِنَ الأب كلويترز في دير تعنايل. وأقامت برقا مراسم جنازته في الجمعة العظيمة لتسلّط الضوء على التشابه بين مقتله وموت المسيح، فتحوّل استشهاد الأب اليسوعي علامة رجاء وقيامة.

نعم! أحبّ الأب نقولا كلويترز المسيح حتى الشهادة التي أزهرت نعمًا وصمودًا وقداسة في لبنان. تحضرنا كلمات المطران أبو جودة، في ذكرى مرور 40 يومًا على استشهاد الأب كلويترز، حين لمس حزن أهالي برقا ونسائها اللواتي سرن حافيات حزنًا عليه: «من أراد أن يحجّ، فليتوجّه إلى برقا. أنتم تطلبون منّي كاهنًا بديلًا يشبه الأب نقولا، فإذا أردتُ أن أكون كاهن رعيّة برقا، لن أحلّ مكان الأب نقولا!».