غيتا مارون
«الأسقف هو رجل صلاة، يشعر بأنّه مُختار، وهو قريب من الناس» (مقتطف من عظة ألقاها البابا فرنسيس في 11 أيلول 2018).
وُلِدَ في 19 آذار 1969 في طرابلس، حيث تشبّع بالقيم التي زرعها أهله في قلبه منذ نعومة أظفاره. حوّل الإيمان الصادق بيته إلى مكان يضجّ بحضور الله، ما شكّل الأساس لبناء روحانيّته. بين الحرب وتحدّيات الحياة، كانت الرعيّة الملجأ والملاذ، وكان لخادمها الكاهن دور كبير في تجسيد صورة الله في مسيرته.
لم يسعَ إلى سعادة دنيويّة، بل بحث عن فرح أعظم وجده مع الله. من التعليم في الجامعات إلى الخدمة الراعويّة، حمل في فؤاده شجون رعيّته وأبنائها وقدّم نفسه بشغف لمن يحتاجه، فكان المبشّر الدائم بالكلمة والقائد المتبصّر والراعي الأمين.
إنّه النائب البطريركي العام على أبرشيّتي جبّة بشرّي وزغرتا-إهدن المارونيّتين المطران جوزيف نفّاع الذي يشارك «قلم غار» شهادة حياته منذ طفولته، مرورًا باكتشافه دعوته الكهنوتيّة، ووصولًا إلى نيله الدرجة الأسقفيّة، بقلبٍ متهلّل بالشكر المتواصل لله
-كيف تصفون حضور الله في حياتكم منذ الطفولة والمراهقة، وصولًا إلى اكتشاف الدعوة الكهنوتيّة؟
بدايةً، يتجلّى حضور الله في التربية. لذا، يعود الفضل الكبير في اختباري وجود الربّ إلى أهلي الذين جسّدوا إيمانهم ببساطة وصدق، ونقلوه إليَّ بأمانة. اهتمّ والداي بأن تكون ليسوع مكانة كبيرة في أسرتنا، والتزما في الكنيسة، فنقلا إلينا الالتزام الديني والمشاركة في القداديس أيّام الآحاد.
في كل عيد من السنة الطقسيّة، يجب أن يظهر ارتباط يسوع به جليًّا. في عيد الميلاد، أتذكّر أنّ المغارة كانت تتوسّط منزلنا، حيث كنّا نلتقي لنرفع الصلاة. وكان أهلي يجلبون لي هديّة ويتحدّثون عن بابا نويل، قائلين إنّه صديق يسوع، فهو طفل صغير لا يستطيع أن يجول على البيوت. لذلك، أرسل صديقه بابا نويل يوزّع الهدايا لجميع الأولاد. تأثرت بهذه المقاربة، وكنت أقول: «شكرًا يسوع».
كل هذه الأمور وضعت يسوع في المركز. هو من جعلني أنطلق في مسيرة الاكتشاف.
أنا ابن الحرب، ولم تسنح لي الفرصة كأترابي للقيام بالكثير من النشاطات إلا في الرعيّة التي غدت المتنفّس الوحيد خارج المدرسة.
كذلك، أذكر خوري رعيّتنا المونسنيور الراحل ميشال واكيم الذي كان يجلس على كرسي في ساحة كنيسة مار مارون طوال النهار، بسبب قربها من مركز مخابرات، ليراقبنا كي يحمينا ويجنّبنا الوقوع ضحايا الخطف. مثّل هذا الكاهن حضور الله الصامت الخجول ببسمة وهدوء، فساعدنا لننمو في النعمة. علّمني حضوره الكثير، وربّما جعلني الفرح الذي وجدته في رعيّتي أصغي إلى صوت يسوع القائل لي: «بعد هذا الكاهن، يجب أن يكمل أحد ما المشوار».
من ثم، دخلت الدير متأثرًا بهذه الفكرة. كما كنت ابن الكشافة التي ألهمتني وشعرت بأنّنا بحاجة إلى مرشد ينبّهنا في مسيرتنا.
-كيف نمت بذور الدعوة في حياتكم؟ وماذا تخبروننا عن الغوص في عمق اللاهوت؟
أحببت اللاهوت في الأساس، واخترت التخصّص فيه، بعدما عدلت عن دراسة البيولوجيا. دخلتُ الإكليريكيّة البطريركيّة المارونيّة في غزير.
في خلال الدراسة اللاهوتيّة، أذكر حادثة حصلت معنا، بعدما سَمِعَنا الأب الراحل مارون مطر نتناقش حول المواد أو الفصول التي سندرسها أو نتجاوزها، فنصحنا بأن لا نحذف سطرًا واحدًا منها، قائلًا: «عندما تصبحون كهنة، قد يأتيكم أحدٌ ما متألم، وربّما يكمن الدواء في السطر الذي لم تحفظوه. إذا لم تدرسوا، قد تتسبّبون بموته. والله يقول: لا تقتل».
منذ ذلك الحين، اطّلعت على كل المواد في اللاهوت. وتعلّق قلبي بهذه الفكرة: «في هذا الكتاب، لا معلومات تأتي بدرجات بل هو يحتضن الدواء لأولادي الذين سيقصدونني عندما أصبح كاهنًا ويسألونني عن حياتهم ومشاكلهم وإيمانهم وشكوكهم، وأنا سأجد الحلول لهم». درست بشغف وفرح. أحببت اللاهوت، وغصت في العمق.
اخترت التخصّص في الكتاب المقدّس. أشكر الله على المطران الراحل جبرائيل طوبيّا الذي شجّعني على انتقاء هذا التخصّص بدلًا من القانون الكنسي. تخصّصت في الجامعة الغريغوريّة الحبريّة في روما لمدّة 5 سنوات، وصولًا إلى الدكتوراه. وكنت حينذاك مرشدًا للكشاف الإيطالي أيضًا.
-يوم الرسامة الكهنوتيّة مهمّ في حياة الكاهن، كيف تصفونه؟
رُسمت 3 مرات في رعيّتي مار مارون؛ كانت الرسامة الشمّاسيّة مهمّة بالنسبة إليَّ لأنّني قلتُ فيها كلمة «نعم» للمرّة الأولى، ورُسِمْتُ شدياقًا قبل عام من سيامتي الكهنوتيّة.
14 أيلول 1996 هو تاريخ رسامتي الكهنوتيّة. كانت السيامة متواضعة، وشعر المحيطون بي في تلك اللحظات بأنّني مثقل بالهموم، فقلت لهم: «لست مهمومًا بل كنت أتأمّل في كلمة نعم الأبديّة».
في ذلك اليوم، اخترت المرنّمين ومزيّني الكنيسة من أبناء الرعيّة، كأننا ننظّم مخيّمًا. قلت لهم: «أن أكون كاهنًا يعني أنّني لكم وأنّكم لي». لم أحضّر زيًّا جديدًا للمناسبة، وقرّرت أن أرتدي زيّ كاهن الرعيّة المعتاد. لكن عمّي الكاهن أعدّ لي زيًّا كهنوتيًّا جديدًا لبسته في الرسامة. عشنا فرح الأخوّة وروحانيّة الكشافة.
-من الكهنوت حتى الدرجة الأسقفيّة، كيف تختصرون هذه المرحلة؟
حصيلة السنوات 20؛ 5 سنوات منها في روما؛ هناك تعرّفت على كنيستي وأدركت كيف تحيا وتفكّر وتحمل هموم الدنيا… روما جعلتني أفهم أنّني كاهن للكون، ووسّعت آفاقي: أجد يسوع أينما كان. هناك، خدمت 3 أو 4 رعايا. اعتدت أن أكون لجميع الناس. وتعمّقت في دراسة الكتاب المقدّس واللاهوت. في اليوم التالي من مناقشة أطروحة الدكتوراه، حصلت على عرض بالتعليم الجامعي. علّمتُ في 5 جامعات. عشت مع الشبيبة التي تدرس اللاهوت.
عقب عودتي إلى لبنان، درّستُ مادة «مدخل إلى الكتاب المقدّس» (درس مشترك) صفًّا نصفه غير مسيحي في الجامعة اليسوعيّة. كان صفًّا رائعًا؛ أيقنت أنّ ما أقوله للمسيحيين وأعتبره عاديًّا، يقف عنده غير المسيحي، فهو لا يفهمه ويُريني أنّني لا أشرحه بشكل صحيح. ساعدني هذا الصفّ لأرتّب دروسي بطريقة أفضل.
بطاعةٍ كاملة للكنيسة، كان 80% من وقتي مكرّسًا للتعليم. وكنت خوري رعيّة صغيرة جدًّا. اخترت البتوليّة لأنّني لست مستعدًّا للتوقف عن التعليم والنشاطات الرعويّة…
-هل علمتم مسبقًا بأنّكم ستنالون الدرجة الأسقفيّة؟
كنت مقتنعًا جدًّا بأنّني لن أصبح مطرانًا.
-علامَ بنيتم هذه القناعة؟
يعود السبب في ذلك إلى أنّ كثيرين يحلمون بهذا المنصب ويعملون من أجله، فيزورون بكركي يوميًّا ويجالسون مطارنة. أنا لم أزر بكركي قبل رسامتي الأسقفيّة، وربّما شاركت في 3 مناسبات أُقيمت فيها فقط.
-كيف انتُخبتم مطرانًا؟
علمت بأنّ أحد المطارنة طرح اسمي لكوني متمكّنًا من اللاهوت والوعظ. من ثم، اتصل بي المطران الراحل جورج أبو جودة، طالبًا منّي إرسال سيرتي الذاتيّة إليه. بعد أيّام قليلة، أبلغني بانتخابي مطرانًا، وسألني: «هل تقبل أو لا؟». أجبته: «سيّدنا، لم أطلب يومًا شيئًا من الكنيسة، ولم أرفض أمرًا عرضته عليَّ الكنيسة». فدعاني للتوجّه إلى بكركي.
-متى احتفلتم برسامتكم الأسقفيّة؟ كيف تصفونها؟
احتفلت برسامتي الأسقفيّة يوم الأربعاء 3 آب 2016، المصادف عيد النبي داوود (محور اختصاصي في العهد القديم). كان تاريخ السيامة الأسقفيّة ذكرى اليوم عينه الذي رُسِمَ فيه المطران الراحل فرنسيس البيسري منذ 25 عامًا، وأصبحت خليفته في ما بعد، كأنّها علامة من الربّ بأنّني سأرتدي هذه الجبّة! وهذا ما حصل…
حاولت أن أجعل هذا اليوم بسيطًا وجميلًا مثل رسامتي الكهنوتيّة. دعوت الجوقة عينها التي خدمت سيامتي الكهنوتيّة، ولا يسعني إلا أن أشكر البطريركيّة المارونيّة، ولا سيّما البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي والقيّم البطريركي الأب طوني الآغا الذي أعدّ عشاءً فاخرًا احتفالًا بالمناسبة السعيدة.
-كيف تختصرون الفترة الممتدّة من انتخابكم أسقفًا حتى الساعة؟
الكاهن مسؤول عن المؤمنين، ويهتمّ بهم كأنّهم أولاده. عندما انتُخبت أسقفًا، اعتبرت أنّني أصبحت خوري رعيّة تحتضن كهنة. أحيا معهم بهذه الطريقة؛ الكهنة هم أولادي؛ أنا أهتمّ بهم، وهم يهتمّون برعاياهم. ما زلت أعيش الروحانيّة عينها…
إنّ المطران لا يستقبل إلا المشكلات، ولديه تحدٍّ كبير متعلّق بهذا الشأن.
أحمد الله لأنّ الأبرشيّتين اللتين أهتمّ بهما جبّة بشرّي وزغرتا-إهدن تحتضنان كهنة رائعين. لا مشكلات بين المؤمنين وكهنتهم. لكن هناك الكثير من المعضلات بين الناس، وهي متعلّقة بالأوقاف أو الأراضي أو الحياة الزوجيّة، إلخ…
-من شفيعكم من القديسين أو القديسات في مسيرتكم الكهنوتيّة وصولًا إلى الأسقفيّة؟
لديّ شفعاء كثيرون. كل فترة من حياتي لها شفعاؤها. علاقتي وطيدة بالقديس يوسف، فأنا وُلِدْتُ في تذكاره، وحملت اسمه، وبقي اسمي عينه في الكهنوت والأسقفيّة. مار يوسف حاضن يسوع ومربّيه وحاميه ويؤثر فيَّ لأنّه قديس الصمت والعمل إذ لا نجد له أيّ كلمة في الإنجيل.
-بين الكهنوت والدرجة الأسقفيّة، كيف لمستم يد الربّ في أوقات الشدائد؟
لو لم تكن يد الربّ موجودة معنا، لا أحد منّا يصمد. الربّ لم يتركني أبدًا. في الكتاب المقدّس، يقول سفر المزامير: «لو لم يكن الربّ معنا، لابتلعونا ونحن أحياء» (مز 124).
عندما تقع المشكلة، أعرف كيف أسلّمها لله. ألخّص هذه المسيرة بالعبارة الآتية: «عندما تكبر المعضلة، يفيض قلبي فرحًا لأنّني متيقّن من أنّني سألمس قوّة يسوع وحضوره وإيجاده الحلول المناسبة».
-في حال تولّيتم دورًا قياديًّا أعلى في الكنيسة، ما الخطّة التي تضعونها من أجل تعزيز مسيرتها وتجديدها؟
نحن في لبنان نحتاج إلى سلطة كنسيّة عليا تكون على تواصل كبير مع جميع الأفرقاء. التشرذم في وطننا خطر. كلامي مبنيّ على اختبار معيّن، فأنا مطران جبّة بشرّي وزغرتا-إهدن، وهناك تباعد سياسي بين المنطقتين. أنا أحترم وجهات النظر المختلفة لكنني أؤدّي دائمًا دور الأمّ التي تقرّب هذه المواقف، وأنجح في مساعيَّ. في هذا الإطار، أودّ أن أذكر الاستقبال اللافت لذخائر الطوباوي البطريرك إسطفان الدويهي في بشرّي بتاريخ 30 آب 2024. يومذاك، حضر من إهدن حوالى 300 شخص؛ 90 في المئة منهم وطئوا بشرّي للمرّة الأولى.
لبنان يحتاج إلى تقريب الناس من بعضهم؛ اللبنانيّون طيّبون. جميعنا لبنانيّون، لا أحد منّا خائن. كل واحد له وجهة نظر، ولا أحد يقترب من الآخر، أضف إلى ذلك جراح الماضي… أما النقاط الأخرى، فتأتي من تلقاء نفسها، والله يحلّ ما تبقّى من المسائل. المهم أن نقترب من بعضنا البعض. يجب إيجاد صيغة معيّنة ونقاط مشتركة واحترام بعضنا…
-في النهاية، علامَ تشكرون الربّ؟
أشكره على كل الأشياء في العالم. أحمده على مشروعه لأنّه خلقني كي أكون سعيدًا، وأشكره على فيض الفرح الذي منحني إيّاه… كل شيء في مسيرتي نعمة حتى الاختبارات والأيّام الصعبة… أنا سعيد جدًّا في حياتي.