غيتا مارون
«الأسقف هو وكيل الله» (مقتطف من عظة ألقاها البابا فرنسيس في 12 تشرين الثاني 2018).
وُلِدَ في 28 كانون الثاني 1960 في بلدة أبلح البقاعيّة. أسقفٌ تصدّر الصفوف الأماميّة في تعزيز الوحدة الوطنيّة والتعايش المشترك. خادمٌ أمين لأبرشيّته، استجاب لنداء الربّ منذ نعومة أظفاره.
سعى دائمًا إلى إنماء الرعايا، فاهتم بالبشر والحجر. أسّس مراكزَ مهمّة لبناء الإنسان، ورمّم الكنائس المهدّمة، واعتنى بالأطفال والشبيبة والعجزة.
ساعد المحتاجين بغضّ النظر عن انتمائهم الطائفي أو الديني. جمع بين العلم والتربية الدينيّة والخدمة الرعويّة. تبحّر في التعليم والرسالة، فهو أستاذ محاضر في جامعات القديس يوسف والروح القدس-الكسليك والحكمة، وداعمٌ لنشاطات الحركات الرسوليّة.
مسيرته المحتضنة حوالى 53 عامًا من الخدمة والتفاني شهادة نابضة بالوفاء لكلمة الربّ (متى 25: 34-40).
في اسمه اجتمعت النبوءة والبشارة. جذبته القديسة تريزيا الطفل يسوع، ولا سيّما طفولتها الروحيّة المعانقة للنضوج، وتعلّق قلبه بالمكرّم الأب بشارة أبو مراد المخلّصي. في كل محطة من مسيرته، لمس تدخّل الله ونعمه ليصبح رمزًا للعطاء في حقل الربّ.
إنّه راعي أبرشيّة صيدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك المطران إيلي بشارة الحداد الذي يشارك «قلم غار» شهادة حياته منذ طفولته، مرورًا باكتشافه دعوته الكهنوتيّة، ووصولًا إلى قبوله الدرجة الأسقفيّة.
-كيف تجلّى حضور الربّ في حياتكم منذ الطفولة والمراهقة، وصولًا إلى الدعوة الكهنوتيّة؟
إنّ حضور الله يتجلّى في العائلة والتربية الدينيّة في المنزل. الرغبة في التكرّس الكلّي لله جمعت أمّي وأبي إذ دخل كلٌّ منهما الدير لكنّهما لم يكملا لأسباب خاصة. غرست عائلتنا بذور الالتزام الديني في قلوبنا، مثل المشاركة في قداديس الأحد، والصلاة قبل تناول الغداء وبعده وقبيل النوم، والخدمة. القيم التي عشتها في المنزل خلقت جوًّا مؤاتيًا لنموّ دعوتي. بدون مساعدة العائلة، من الصعب أن تتفتّح الدعوات الكهنوتيّة. أخبرنا والداي أنّهما كانا سعيدين في الدير، فأشعلا فيَّ الحنين لتكريس ذاتي للربّ.
كذلك، شعرت أختي بالدعوة للترهّب، فالتحقت برهبانيّة العائلة المقدّسة، وأنا دخلتُ الإكليريكيّة الصغرى في دير المخلّص في سنّ الثانية عشرة.
كما التزمتُ في ميداد (الحركة الرسوليّة العالميّة للأولاد) حيث لعبت هذه الحركة دورًا مهمًّا في اكتشاف دعوتي. وأصبحتُ لاحقًا مسؤولًا فيها، ثم مرشدًا وطنيًّا.
في سنّ السابعة عشرة، أبرزتُ نذري الأوّل. بعد 3 سنوات، أبرزتُ نذري الثاني أو الأخير. في السادسة والعشرين، رُسمتُ كاهنًا.
-متى كانت رسامتكم الكهنوتيّة؟ كيف تصفونها؟
9 آب 1986 هو تاريخ رسامتي الكهنوتيّة بوضع يد المطران الراحل حبيب باشا في كاتدرائيّة القديس بولس-حريصا: كان يومًا سعيدًا اختتمت فيه مرحلة من مسيرة كبيرة مفعمة بنعم الله ووضوح محبّته ورؤيته لي، ومليئة بالصعوبات والتردّد والنضوج.
احترت كثيرًا في الاختيار بين الزواج وبناء عائلة، والبتوليّة. كان تاريخ سيامتي الكهنوتيّة يوم نعمة. طبعًا الرسامة هو يوم احتفاليّ لكن المسيرة هي الأهمّ؛ اليوم الذي قرّرت فيه أن أكون كاهنًا أكثر أهمّية من رسامتي، فهو الأساسي. أمّا تاريخ السيامة، فهو يوم صلاة وشكر للربّ.
-لماذا اخترتم البتوليّة؟
اخترت البتوليّة لأنّني أردت أن أضحّي في سبيل الله والناس؛ أنا أحبّ الزواج والعائلة، لكن كان عليَّ حسم قراري. استشرت مرشدي في فرنسا آنذاك. فوجدت أنّ التكرّس لله هو الخيار الأفضل، ووثقت بأنّ الربّ سيعطيني النعمة لأتخطى صعوبات البتوليّة. وهذا ما حدث فعلًا. عشت مسيرةً من النضوج الروحي، وأسعى دائمًا إلى تجاوز العثرات.
-من الكهنوت إلى الدرجة الأسقفيّة، كيف تختصرون هذه الفترة؟
أختصرها بأنّها خدمة متنوّعة بحسب مواهبي. الرهبانيّة المخلّصيّة أعطتني إمكانيّات كبيرة؛ تعلّمت في روما، ونلت درجة الدكتوراه في القانون، وعلّمت في الجامعات، وكنت رئيس المحكمة الاستئنافيّة. اختبرت مسيرةً رعائيّة، وأصبحت مرشدًا وطنيًّا لحركة ميداد. الآن، أنا مشرف على المحاكم، وما زلت أعلّم في الجامعات لكنني خفّضت عدد ساعات التعليم لأنّ إنجاز مهمّاتي في المطرانيّة يستغرق المزيد من الوقت للقاء الناس في الرعايا…
-هل عرفتم مسبقًا بأنّكم ستكونون أسقفًا؟
بعد شغور الكرسي الأسقفي في مطرانيّة صيدا، أجمع المطارنة الكاثوليك على انتخابي. شعرت بهذا النداء الموجّه إليَّ عبر المكرّم الأب بشارة أبو مراد، فأنا أطلب شفاعته وأحمل اسمه؛ أحسست بأنّه يريدني أن أهتم بشؤون أبرشيّة صيدا ودير القمر، وهذه المنطقة مهمّة بالنسبة إليَّ. كنت أواصل دراستي اللاهوتيّة في إيطاليا حينذاك، وفكّرت بأن أخدم فيها أو في فرنسا لكنني تجاوبت مع النداء الروحي للأب أبو مراد وعدتُ إلى صيدا من أجل الخدمة.
-متى احتفلتم بسيامتكم الأسقفيّة؟ كيف تصفونها؟
24 آذار 2007 هو تاريخ رسامتي الأسقفيّة بوضع يد البطريرك غريغوريوس الثالث لحّام في كاتدرائيّة القديس بولس-حريصا. أعتبر هذا اليوم مثل رسامتي الكهنوتيّة يوم صلاة. لم يتغيّر شيء في حياتي بين الكهنوت والأسقفيّة إلا نوع العمل وحجمه. كانت الرسامة يوم شكر لله، وشعرت في خلال حلول الروح القدس بأنّ الربّ أنعم عليَّ وأعطاني قوّة عظيمة لكن الجماعة الحاضرة أفرحتني أكثر إذ لمست محبّة الناس، فغصّت الكنيسة بهم ولم يبقَ مكان شاغر فيها. الشعب يختار الأسقف؛ كلمة «أكسيوس» اليونانيّة (أي مستحق) تُقال في حضور المؤمنين.
-ما أبرز الخطوات التي قمتم بها من أجل تحسين أحوال الأبرشيّة؟
أتممنا الكثير من الخطوات، أذكر منها: تأسيس مركز «ميتانويا للمشورة» في مغدوشة، ومركز «بشارة حياة» بالتعاون مع جمّا مارون سليمان، وإنشاء مدرستين، ومأوى للعجزة، ومركز للمطرانيّة في كفرفالوس.
إلى جانب ذلك، دعمنا الحركات الرسوليّة: ميداد والشبيبة الطالبة المسيحيّة والفوكولاري والحركات الشبابيّة الناشطة في الأبرشيّة التي أسّسناها مع الأب وليد الديك.
على الصعيدين الروحي واللوجستي، زاد حجم الأبرشيّة. كما عزّزنا أحوال المطرانيّة: زاد عدد الكهنة: أصبح 45 كاهنًا بدلًا من 30. وأعدنا إعمار حوالى 10 كنائس مهدّمة، تكملةً لما قام به المطران الراحل جورج كويتر من إعادة إعمار حوالى 25 كنيسة.
الربّ ساعدنا، والمحسنون دعمونا أيضًا.
-نراكم فاعلين على صعيد تعزيز العلاقات مع المسلمين؛ تكونون حاضرين معهم ومشاركين في نشاطاتهم واحتفالاتهم. ماذا تخبروننا عن هذا الجانب؟
التعايش مع الآخر عنصر مهمّ في أبرشيّتنا، سواء أكان في صيدا مع السنّة أم في النبطيّة مع الشيعة أم في الجبل مع الدروز. نحن منفتحون على الجميع، وتدعو خطاباتنا دومًا إلى الوحدة واحترام الآخرين. لذلك، نجد صداها في خطاباتهم تجاهنا. وتصبح طريقتنا منهجيّة عمل إذ لا يمكننا السير وحدنا بل علينا أن نتعاون مع الآخرين.
-من شفيعكم من القديسين والقديسات في مسيرتكم الكهنوتيّة وصولًا إلى الأسقفيّة؟
في الكهنوت، اخترت القديسة تريزيا الطفل يسوع وسلّمتها نفسي. الأب بشارة أبو مراد هو مكرّم حاليًّا ومهمّ جدًّا في رهبانيّتي وقد أثّر فيّ كثيرًا لأنّه راهب مخلّصي.
كما توطدت علاقتي الروحيّة مع القديس نقولا لكون الكاتدرائيّة في الأبرشيّة تحمل اسمه؛ تعرّفت إلى شخصيّته الرائعة، وأسأله طلبات خاصة، فنعمه تغمر حياتي.
كذلك، علاقتي وثيقة بالعذراء مريم التي أسلّمها الأبرشيّة.
-ماذا عن مار الياس؟
(ضاحكًا) طبعًا، لا يمكنني أن أنساه. سماته جميلة، وقد تعمّقت في سيرته منذ قبولي الدرجة الأسقفيّة. في المقابل، تجذبني سير القديسين المعاصرين أكثر من أنبياء العهد القديم.
-ما الذي جذبكم في القديسة تريزيا الطفل يسوع لتختاروها شفيعةً لكم في البداية؟
جذبتني محبّتها المطلقة ليسوع. كانت تمرّ في أوقات من الغموض والحزن والمضايقات بسبب تصرّفات رفيقاتها، لكنها حين تناجي يسوع، تُحلّ مشكلاتها في خلال 5 دقائق. تمتّعت ببراءة أطفال تعانق النضج. أصبحت معلّمة الكنيسة، وهي لمّا تزل يانعة. إنّ محبّة يسوع منحتها نضوجًا روحيًّا على الرغم من صغر سنّها.
-بين الكهنوت والدرجة الأسقفيّة، كيف لمستم يد الربّ في أوقات المحن؟
ألمس حضور الله في حياتي دومًا؛ لقد أراني تدخّله في محطات كثيرة، بخاصة في خلال الحروب والصعوبات المادّية والتعليميّة والاغتراب. أتحلّى بوضوح في الرؤية بأنّ يسوع معي، ولا سيّما في الأسقفيّة. أحيانًا، يكون حجم المتطلّبات أكبر من المتوفّر لكنني لا أعلم كيف يساعدني الله، سواء من خلال الأشخاص الذين يرسلهم إليّ أم الوسائل أو المال.
أتّكل دومًا على نعمة الله… لم أعد أخاف من أيّ شيء… لكنني أخشى ألا أُرضي الناس لأنّ انتظاراتهم أكبر من مقدراتنا. ليتني أستطيع أن أؤمّن كل احتياجاتهم وأجعلهم سعداء. أنا أبذل قصارى جهدي، والربّ يواصل رعايته الجميع.
-تحدّثتم عمّا يقلقكم. ما الذي يفرحكم؟
تفرحني الصلاة لأنّها معزّية وتجعلني أرى ضعف الإنسان مقابل قدرة الله وعظمته.
عندما نرى الواقع، نشكر الربّ على بركاته، ونطلب منه أن يغدق علينا المزيد من عطاياه لمساعدة الناس. إنّنا نصلّي من أجلهم، فنشعر بالقرب منهم.
-ما البرنامج الذي تضعونه من أجل تعزيز مسيرة الكنيسة؟
التوجّه الأبرز يكمن في توضيح هويّة الطائفة الكاثوليكيّة وتعزيز دورها في الوطن والبلدان المجاورة على الصعد الروحيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. بالتالي، يجب العمل على ترسيخ هويّة الكنيسة، إلى جانب تأمين موارد إضافيّة للقيام بالمزيد من الخدمات.
كذلك، من الضروري السعي إلى التركيز على العمل المجمعي، فالكنيسة ليست أبرشيّات، بل هي مجمع أبرشي يضمّ أساقفة ومؤمنين، مثل الرسل الذين اجتمعوا وغيّروا وجه العالم.
-في النهاية، علامَ ترفعون الشكر إلى الربّ؟
أحمد الربّ على إيضاح دعوتي منذ اللحظة الأولى. لم يتركني أتعثّر في صعوبات مسيرتي. غمرني بالتعزيات إذ أعطاني علامات، قائلًا لي: «أريد أن تكون في ذلك المقام. لا تقلق. أنا إلى جانبك». الربّ هو سندي الدائم.