د. غسان حنا ونيكول طعمة
خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، ودعاه ليُشاركه في عمل الخلق والخلاص، وليحيا معه في شركة أبديّة. لكن الإنسان خسر سلامه مع الله والخليقة بعد وقوعه في الخطيئة، وصار بحاجة إلى أن يجاهد بمعونة النعمة الإلهيّة ليعيد بناء ما تهدّم ويستعيد الفردوس المفقود.
الصوم لغة الروح
الصوم هو الطريق المفقود نحو الملكوت، ولغة الروح حين تجوع إلى النعمة، وتطلب وجه الربّ في التواضع والدموع. في الكتاب المقدّس، يتجلّى الصوم كفعل عبادة عميق يربط الجسد بالروح، ثم يقرّبهما من الله. هو عمل عميق يحرّك التوبة، ويكسر قساوة القلب، لا مجرّد انقطاع عن الطعام.
نداء الأنبياء وتوبة الشعوب
نقرأ في العهد القديم: «ارجعوا إليَّ بكل قلوبكم، بالصوم والبكاء والنوح» (يوئيل 2: 12).
هذه الدعوة ليست شكليّة، بل هي نداء إلى كسر قساوة القلب، وعيش توبة حقيقيّة تنبع من الداخل. نينوى كلّها صامَت، من الملك إلى البهائم، حين سمعوا كلام يونان، فَحَنَّ الله عليهم (يونان 3: 5-10).
الصوم في حياة يسوع والرسل
مع يسوع المسيح، اكتسب الصوم معنًى جديدًا يتجاوز الشكل الخارجي إلى البعد الداخلي والروحي. قال يسوع: «لا يقدر بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم، لكن ستأتي أيّام حين يُرفَع العريس عنهم، فحينئذٍ يصومون» (متى 9: 15). فالصوم المسيحي ينبع من الشوق إلى العريس الإلهي، والرغبة في الاتحاد به. كما حذّر يسوع من التظاهر بالصوم، مشدّدًا على النيّة الخفيّة: «أنتَ متى صمت، فادهن رأسك واغسل وجهك» (متى 6: 17)، مشيرًا إلى أنّ الصوم المقبول عند الله هو المرتبط بتواضع القلب وصدق التوبة.
في العهد الجديد، يرتبط الصوم أيضًا بالصلاة والقوّة الروحيّة، كما قال الربّ: «هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم» (متى 17: 21). إنّه صوم من أجل التحرير، والشفاء، والتجدّد، لا مجرّد طقس.
يسوع نفسه صام أربعين يومًا في البرّيّة (متى 4: 2)، لا ليُظهر قوّته، إنما ليعلّمنا أنّ الجوع الحقيقي يكون إلى كلمة الله، بحسب قوله: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله» (متى 4: 4).
أمّا الرسل، فمارسوا الصوم مع الصلاة قبل اتخاذ قرارات كبرى، مثل إرسال بولس وبرنابا إلى الرسالة (أعمال 13: 2-3).
القديسون والصوم
إنّ القديسين اعتبروا الصوم وسيلةً لتطهير القلب وعيش التواضع. على سبيل المثال، قال القديس يوحنا الذهبي الفم إنّ الصوم لا يقتصر على الامتناع عن الطعام فحسب، بل يتخطاه إلى الابتعاد عن أعمال الشر.
بالنسبة إلى القديسين، ارتبط الصوم بالصدقة والصلاة، كما أوصى الربّ يسوع المسيح (متى 6).
إنّ الصوم مدرسة في المحبّة والتوبة، وجسر عبور من العالم إلى الله. هو نداء إلى إعادة ترتيب الأولويّات، وإفساح المجال لنعمة الله كي تعمل في القلوب لأنّ «القلب المنسحق والمنكسر لا يرذله الله» (مزمور 51: 17).
———————————————————-
اقرأ أيضًا:
وعود الصوم… عهد مع الله وسفر إلى العمق
الصوم والعطاء… رحلة حج نحو نور القيامة
———————————————————-
«قلم غار» موقع رائد في كتابة شهادات الحياة الملهمة، ينقل اختبارات مؤمنين رُصّعت حياتهم بانتصارات مكلّلة بالغار، ويتناول أخبار الكنيسة الجامعة، مع إضاءات حصريّة وموثّقة وموثوقة ووافية وآنيّة. تخطّى حدود الوطن إلى العالميّة. نال بركتين روحيّتين: أبويّة وحبريّة.
يسعى موقعنا منذ انطلاقته، ولا سيّما في النقلة النوعيّة التي جعلته يحتلّ المراتب الأولى في التغطيات الحصريّة عام 2024، إلى إعلاء صوت مسيحيي الشرق المتألمين وإيصال البشرى حتى أقاصي الأرض.
———————————————————-