أسرة تحرير «قلم غار»
نزيف لبنان وجراحه وآلامه حضرت اليوم في عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في خلال ترؤسه القداس الإلهي في المقرّ البطريركي الصيفي في الديمان، فقال: «لبنان في حزن شديد لما أوقعت إسرائيل من ضحايا لبنانيّة مدنيّة وحزبيّة وقياديّة في صفوف حزب الله أيّام الثلاثاء والأربعاء والجمعة في ضربات غير مسبوقة خالية من الإنسانيّة، ومتعدّية كل حدود المشاعر البشريّة».
ووجّه الراعي نداءً إلى مجلس الأمن لوضع حدّ لهذه الحرب بالسبل المتاحة، معتبرًا أنّ السلام صنيع العدالة وثمرة المحبّة النابتة من الأخوّة الإنسانيّة.
وجاء في عظة الراعي ما يأتي:
«ما هي علامة مجيئك ونهاية العالم» (متى 24: 3)
1.عندما كلّم الربّ يسوع تلاميذه عن خراب هيكل أورشليم، ظنّوا أنّها نهاية العالم. ذلك أنّ الهيكل هو كل شيء عندهم، وهو محطّ أمالهم، والصامد أبدًا. فسألوه: «متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك ونهاية العالم» (متى 24: 3). لكن الربّ كلّمهم عمّا سيواجهونه من مضايق واضطهادات، وعمّا سيصيب العالم من حروب وزلازل، وعن ظهور مسحاء كذبة يضلّون الشعوب. فأوصاهم بأمرين: التسلّح بالصير «فمن يصبر إلى النهاية يخلص»، «والكرازة بإنجيل الملكوت في الخليقة كلّها، وعندئذٍ يكون الانقضاء».
2.يسعدني أن أحيّيكم جميعًا، وأن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، ونصلّي فيها من أجل نهاية الحروب، وإحلال سلام عادل وشامل في جنوب لبنان وغزّة. ونصلّي لراحة نفوس القتلى وشفاء الجرحى الذين سقطوا من صفوف حزب الله في هذا الأسبوع المنصرم.
وأوجّه تحيّة خاصّة لعائلة عزيزنا المرحوم الخوري طانيوس أبي رميا، كاهن إهمج السابق، فنحيّي زوجته وعائلته وأنسباءه. وقد ودّعناه معهم في هذا الصيف ومع أهالي إهمج الأعزّاء. فنصلّي لراحة نفسه وعزاء أسرته
كما أحيّي جمعيّة الكشّاف الماروني، رئيس الهيئة الإداريّة والعامّة. وفي المناسبة، نثني على حضور هذه الجمعيّة الكشفيّة وتنظيم الاحتفالات في مختلف الرعايا. ونتمنّى لها دوام النموّ والازدهار.
3.نحن في زمن الصليب، وهو المرحلة الأخيرة من السنة الطقسيّة. إنّه زمن النهايات والواقعات الجديدة، ونعني الموت والدينونة الخاصة والعامة والخلاص الأبدي والهلاك، ونعني مجيء المسيح الثاني بالمجد، ومجيئه اليومي في حياتنا، حيث يطلب منّا الشهادة له.
4.أمّا نبوءة الربّ يسوع عن خراب الهيكل، فقد تمّت على يد الرومان سنة 70 مسيحيّة ولم يبقَ منها حجر فوق حجر إلا حائط المبكى. ولم يتمكّن اليهود من إعادة بنيانه حتى يومنا. ذلك أنّه فقد قدسيّته ومبرّر وجوده، بعد قتل سيّده وربّه يسوع المسيح. وفي الواقع «عندما أسلم يسوع الروح»، إذا حجاب الهيكل قد انشقّ شطرين من الأعلى إلى الأسفل (متى 27: 50-51).
5.لم يجبهم يسوع عن سؤالهم: «متى يكون هذا، وما هي علامة مجيئك ونهاية العالم» (متى 24: 3). بل دعاهم إلى الصبر مؤكدًا: «من يصبر إلى المنتهى يخلص» (متى 24: 13). ودعاهم إلى الثبات في إيمانهم على الرغم من الاضطهادات والمضايق والتضليل، وإلى مواصلة إعلان إنجيل الملكوت، هذا الإنجيل يعني الإتحاد بالله عاموديًّا، والوحدة مع جميع الناس أفقيًّا.
إنّ زمن الصليب يدعونا نحن المسيحيّين، لننظر إلى الوطن السماوي، من حيث يُعطى لنا نور جديد، وقوّة في التزامنا ومسيرتنا اليوميّة، الهادفة إلى نشر ملكوت الله، بالكرازة وشهادة الحياة، والأفعال والمبادرات. إنّها خدمة غالية يجب أن نقدّمها لعالمنا هذا الذي غالبًا ما لا يقوى على رفع نظره إلى الأعلى، إلى الله، بسبب انغماسه في تيّارات الماديّة والاستهلاكيّة والنسبيّة؛ وبسبب تيّار الإلحاد المعاصر الذي يؤمن بوجود الله، لكنّه يضعه جانبًا لاعتباره غير مفيد وغير فاعل في الحياة اليوميّة، ويعطي الأهمّية والقدرة للمال والسلاح والسلطة، وهي «الأصنام الجديدة».
6.يدعونا البابا فرنسيس لنتحرّر من «الأصنام الكبيرة والصغيرة» التي هي فينا، أو نلجأ إليها، أو نبحث فيها عن أماننا. إنّها أصنام نحتفظ بها وربّما تكون الطموح إلى النفوذ والتسلّط والسيطرة على الآخرين، وسكرة النجاح، ووضع الذات كمحور، والاعتقاد بأنّنا أسياد حياتنا الوحيدون. يجدر أن أسأل نفسي: «هل فكّرت أنا شخصيًّا في نوع الصنم الخفي في حياتي، والذي يمنعني من العبادة الحقّة لله، ومن إداء الشهادة المسيحيّة الفاعلة والقابلة للتصديق. فضيلة التعبّد لله، وهي واجب من باب العدالة تجاه الله، تعني التجرّد من أصنامنا، حتى المخبّأة في أعماق نفوسنا، واختيار الله كمحور لحياتنا، وكطريق أساسي لها» (راجع عظته في 14 نيسان 2013).
7.هذا السؤال مطروح علينا وعلى كل لبناني بشأن الأصنام الكبيرة والصغيرة في حياة كل إنسان، وفي حياة الجماعة الصغيرة والكبيرة. فكانت النتيجة نقل لبنان من التعدّديّة في الوحدة إلى التعدّديّة في الأحاديّة. ولا تتوقّف هذه الحالة إلا حين ينطلق الشعب اللبناني في مسارٍ مستقبلي جديد يدوم ردحًا زمنيًّا ثابتًا وناجحًا يمكّنه من خلق دورة تاريخيّة جديدة.
لكن التقدّم الوحدوي والسلمي الذي حقّقه الشعب اللبناني عبر المئة سنة المنصرمة لم يكفِ لإنشاء دولة لبنانيّة مستقلّةٍ ومستقرّة، قادرة على توحيد مكوّناتها، وطيّ صفحة الانقسامات التاريخيّة، الداخليّة، والحروب، إلا بانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة يعيد لمجلس النواب صلاحيّاته التشريعيّة والمحاسبة، ولمجلس الوزراء كامل صلاحيّاته الدستوريّة، ويعيد لسائر المجالس حيويّتها، رئيسٍ قادر على توحيد البلاد، رئيسٍ جدير بثقة اللبنانيين والدول الصديقة.
فتبقى التعدّديّة اللبنانيّة الثقافيّة والدينيّة، وحياد النظام السياسي، ووحدة الولاء للبنان كفيلة بحلّ الأزمات الداخليّة والخارجيّة.
أمّا المستوى الحضاري في مجتمعنا، فصار دون مستوى رسالة لبنان، ولبنان الرسالة. ولا خلاص للبنان إلا بالعودة إلى هذا المستوى الحضاري من الدولة وجميع مؤسّساتها الدستوريّة.
8.لبنان في حزن شديد لما أوقعت إسرائيل من ضحايا لبنانيّة مدنيّة وحزبيّة وقياديّة في صفوف حزب الله أيّام الثلاثاء والأربعاء والجمعة في ضربات غير مسبوقة خالية من الإنسانيّة، ومتعدّية كل حدود المشاعر البشريّة. وقد أوقعت عشرات القتلى وآلاف الجرحى ومنهم حاملون إعاقة جسديّة دائمة. فإنّا نقدّر المستوى الطبّي في المستشفيات التي فتحت أبوابها، وأوقفت كل إمكاناتها للمعالجة. هذا فضلًا عن ضحايا جنوب لبنان ودمار المنازل وتهجير المواطنين.
إنّنا نوجّه النداء إلى مجلس الأمن لوضع حدّ لهذه الحرب بالسبل المتاحة. فإذا تُرِكَ المتحاربون، يفنون بعضهم بعضًا قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا. فلا بدّ من فرض إيقاف الحرب والدعوة إلى مفاوضات السلام. فالسلام هو «صنيع العدالة» (أشعيا 32: 7)، وثمرة المحبّة النابتة من الأخوّة الإنسانيّة. في الحرب الجميع مغلوبون، والجميع خاسرون. أمّا الرابحون الوحيدون، فهم تجّار الأسلحة. فيا ليت المتحاربون يقفون لبرهة أمام نفوسهم وأمام الله، لرَموا السلاح من أيديهم وطلبوا عطيّة السلام!
9.فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، لكي يعضدنا الله بنعمته فنصبر على المحن، ونواصل الكرازة بإنجيل الخلاص، فالله هو سيّد التاريخ وحده، ويتدخّل ساعة يشاء وكيفما يشاء. له المجد إلى الأبد، آمين.