أسرة تحرير «قلم غار»
في حين تستمر الأحداث الدامية التي تمزّق لبنان وتخطف أرواح أبنائه، نثرت القديسة تريزيا الطفل يسوع ورودها من أوّل دير حمل اسمها في العالم، كأنّها أرادت أن تفتح ذراعيها لتحتضن جميع اللبنانيين، من دون تفرقة بين الدين والمذهب.
———————————————————-
أعلن البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي دير القديسة تريزيا الطفل يسوع في سهيلة مزارًا وطنيًّا، في خلال ترؤسه مساء اليوم قداسًا إلهيًّا في كنيسة ديرها عشيّة تذكارها، بمعاونة النائب البطريركي العام المطران حنا علوان والرئيس العام للرهبانيّة المارونيّة المريميّة الأباتي إدمون رزق، ورئيس الدير الأباتي سمعان أبو عبدو، ووكيل الدير الأب أنطوان الخويري، والآباء المدبّرين العامين، ولفيف من الكهنة والرهبان، وبحضور حشد من المؤمنين.
في عظته، تناول الراعي سيرة القديسة تريزيا الطفل يسوع وفضائلها وأهمّية أوّل دير في العالم يحمل اسمها، شارحًا أسباب تحويله إلى مزار وطني.
كما جدّد البطريرك الماروني مطالبته بانتخاب رئيس للجمهوريّة، مؤكدًا أنّ اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله فتح جرحًا بليغًا في قلوب اللبنانيين.
إليكم ما جاء في عظة الراعي:
«حبّة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمرٍ كثير» (يو 12: 24)
1.عندما أتى يونانيّون يطلبون من فيلبّس أن يروا يسوع، قال لهم يسوع: «إنّ حبّة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمرٍ كثير» (يو 12: 24). هذا جرى يوم دخول الربّ أورشليم، يوم الشعانين، خمسة أيّام قبل آلامه وموته، وكان كلامه نبويًّا. فقد تكلّم عن موته وعن ولادة الكنيسة من جنبه المطعون بالحربة. وكان مرموزًا إليها بالماء والدم الجاريين من جنبه لجهة قلبه: الماء رمز المعموديّة التي منها نولد ثانية أبناء وبنات لله، والدم رمز الإفخارستيا الذي يفتدينا ويغذّي نفوسنا. وهكذا جعل حبّة الحنطة نهجًا مسيحيًّا، نهج الموت والقيامة.
2.هذا النهج عاشته القديسة تريزيا الطفل يسوع والوجه الأقدس التي نعيّد لها اليوم وغدًا. فهي سمّاها السعيد الذكر البابا بيّوس الحادي عشر في 14 كانون الأوّل 1927 شفيعة الرسالات مساواةً بالقديس فرنسوا كزافيه، وسمّاها المكرّم البابا بيّوس الثاني عشر في 3 أيّار 1944 شفيعة فرنسا مساواةً بالقديسة جان دارك، وسمّاها القديس البابا يوحنا بولس الثاني في 19 تشرين الأوّل 1990 دكتورة الكنيسة، وقد طارت روحها إلى السماء في مثل هذا اليوم 30 أيلول 1897 عن أربع وعشرين سنة إثر مرض عضال.
3.يسعدني أن أحتفل معكم بعيد القديسة تريزيا الطفل يسوع والوجه الأقدس، شفيعة هذا الدير والكنيسة والمزار الوطني، سائلين الله أن تتمّم القديسة تريزيا رغبتها فتمطر علينا من سمائها ورود النعم، كما وعدت. ويطيب لي أن أهنّئ بالعيد أمّنا الرهبانيّة المارونيّة المريميّة الجليلة بشخص قدس رئيسها العام الأباتي إدمون رزق ومجلس المدبّرين ورئيس هذا الدير وجمهوره.
4.لا تقف قداسة القديسة تريزيا على أحداث خارقة العادة، بل «أن تعمل بشكل خارق العادة أشياء عاديّة». هكذا عاشت في خفاء الكرمل في ليزيو، وماتت بوجود 30 شخصًا في جنازتها في 30 أيلول 1897. ولكن في يوم تقديسها في 17 أيّار 1825 كان حاضرًا 500.000 شخص.
5.إنّها الابنة التاسعة لوالدها لويس مارتن ولوالدتها زيلي مارتن، وكلاهما قديسان. أربعة أولاد ماتوا أطفالًا، وبقي منهم أربع بنات. وها الوالدة بعمر 40 سنة حبلى بتريزيا، فولدتها في 2 كانون الثاني 1873. ولكن بعد أربع سنوات توفيت والدتها، فتركت في قلبها جرحًا بليغًا. اختارت تريزيا أختها بولين كأمّ لها ثانية، لكن الجرح البليغ أخذ عشر سنوات لكي يدمل. هكذا كانت حياة العائلة في ألنسون. في 9 نيسان 1888، دخلت تريز دير الكرمل بعمر 15 سنة وثلاثة أشهر. وفي 8 أيلول 1890، أبرزت نذورها الرهبانيّة. وفي قداس الثالوث الأقدس سنة 1895، قدّمت ذاتها للحبّ الرحوم. وخاطبت الربّ يسوع: «يا يسوع حبّي. لقد وجدت دعوتي: إنّها الحبّ. نعم وجدت مكاني في الكنيسة، يا إلهي، أنت أعطيتني إيّاه: في قلب الكنيسة أمّي سأكون الحبّ. وهكذا حلمي يتحقّق». ثمّ بعدما تآكلها المرض، وقبل أن تسلّم الروح قالت كلمتها الأخيرة: «سأمضي سمائي بصنع الخير على الأرض حتى نهاية العالم». وأسلمت الروح في 30 أيلول 1897.
كل روحانيّتها قائمة على كلمتين: «العيش بحبّ». أمّا رسالتها، فهي «أن تجعل الله يحبّ، كما تحبّه هي». وحجر الزاوية في روحانيّتها هو الثقة بالله ومحبّته.
لماذا مزار وطني؟
6.تدعونا القديسة تريزيا في هذا المزار الوطني الذي تُكرّم فيه، إلى القداسة، كما يدعونا المسيح الربّ: «كونوا كاملين، كما أبوكم السماوي كامل هو» (متى 5: 48). ويجدّد الدعوة بولس الرسول: «إنّ مشيئة الله إنّما هي تقديسكم» (1 تس 4: 3). الدعوة إلى القداسة يوجّهها المسيح المعلّم والقدوة الإلهي إلى كل معمّد ومعّمدة أيًّا كانت حالته ودعوته في الحياة.
أوّل المدعوّين إلى القداسة هم الأساقفة رعاة قطيع المسيح، النفوس التي افتداها بدمه على الصليب. فإنّهم مع ملء الكهنوت أُعطوا نعمة السرّ لكي، بالصلاة والتضحية والكرازة، يمارسوا خدمتهم بمحبّة راعويّة، ويكونوا مثالًا أمام القطيع (1 بطرس 5: 3)، ويساعدوا بمثل حياتهم الكنيسة في التقدّم نحو القداسة.
والكهنة ثاني المدعوّين الذين على مثال المسيح الوسيط الوحيد بين الله والناس، يتمّون دورهم مشاركين في وساطة المسيح، بممارسة خدمتهم اليوميّة بأمانة وتفانٍ، وهم ينمون بمحبّة الله والقريب.
والمكرّسون والمكرّسات بنذورهم الرهبانيّة يشعّون بقداستهم أمام الشعب الذي يرى فيهم المثال في السير على خطى المسيح بحياة المحبّة، ويرى في أديارهم واحات روحيّة تشعّ بالمحبّة والقداسة.
والمتزوّجون والوالدون المسيحيّون مدعوّون للتعاضد في أمانة الحبّ بمساعدة نعمة سرّ الزواج على مدى حياتهم، ولتلقين أولادهم العقيدة المسيحيّة، وتربيتهم على الفضائل الإنجيليّة التي قبلوها بمحبّة من الله. وهكذا يقدّمون المثل في حبّهم المتجّدد في حياتهم اليوميّة، على مثال السيّد المسيح الذي أحبّ عروسته الكنيسة وبذل نفسه من أجلها (راجع أفسس 5: 21). ولنا في الطوباويين والدي القديسة تريزيا خير مثال لقداسة المتزوجين، وعديدين غيرهما.
وكذلك الأرامل والعازبون الذين لهم دور أساس في مثل حياتهم عن القداسة في ما يقومون به في حياتهم، وفي رسالتهم في الكنيسة.
والسياسيّون والمتعاطون الشأن العام مدعوّون هم أيضًا إلى القداسة مثل العديد من الطوباويين والقديسين الذين رفعتم الكنيسة على المذابح. فإنّ الإنسان في حقوقه الأساسيّة وكرامته هو قبلة خدمتهم. والحكم بالعدل والإنصاف طريقهم إلى القداسة، وكذلك تعزيز المحبّة والحرّية والسلام بروح التفاني والإخلاص.
7.السياسيّون ومتعاطو الشأن العام عندنا مدعوّون إلى القداسة بتفانيهم في خدمة شأن كل مواطن بتجرّد وشفافية وإخلاص، موفّرين له العيش الكريم بسلام وراحة بال واستقرار، ومشعّين بالفضائل الإلهيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة.
إنّ اغتيال السيّد حسن نصر الله وعدد من المقرّبين رجال ثقته فتح جرحًا بليغًا في قلوب اللبنانيين. وفي الوقت نفسه هو دعوة لجميع القوى السياسيّة لضبط النفس والتروّي والتفكير بالمليون نازح، ومعظم بيوتهم ومتاجرهم وسبل عيشهم مدمّرة ومتلفة ومحروقة، وهم تائهون.
آن الأوان لبناء وحدتنا الداخلية، فكلّنا إخوة في الإنسانيّة، وكلّنا مواطنون في وطن واحد لجميع مكونّاته وأبنائه. آن الأوان لانتخاب رئيس للجمهوريّة يلبّي تطلّعات جميع اللبنانيين، رئيس قادر على بناء الوحدة الداخليّة، والتفاوض باسم لبنان بشأن وقف إطلاق النار، ويشارك باسم لبنان في مفاوضات السلام، وفي عودة النازحين إلى بيوتهم وممتلكاتهم، رئيس يُعيد الحياة للمؤسسات الدستوريّة، وفي طليعتها المجلس النيابي ومجلس الوزراء.
8.فلنُصَلِّ، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، من أجل السلام في لبنان، وانتخاب رئيس للجمهوريّة يعيد للبنان مكانته بين الدول. ولنُصَلِّ لراحة نفوس ضحايا الحرب، ولشفاء الجرحى، وتعزية عائلات الضحايا، ولله المجد والتسبيح الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
تجدر الإشارة إلى أنّ «قلم غار» تفرّد بنشر مقال خاص سلّط فيه الضوء على تاريخ أوّل دير للقديسة تريزيا الطفل يسوع في العالم.