أسرة تحرير «قلم غار»
أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في خلال ترؤسه قداس الشكر لإعلان تطويب البطريرك إسطفان الدويهي اليوم في الديمان، أنّ الطوباوي الجديد هو «منارة علم وقداسة» ومثالٌ لنا في إيمانه بالله ورجائه.
وشدّد الراعي على أنّ الدويهي هو «أكبر البطاركة ولم يأتِ مثله ولن يأتي»، مشيرًا إلى أنّه رجل إيمان وصلاة وتقشّف وزهد وصبر على المحن، وعلامة رجاء في حياتنا.
كما حضرت الذكرى الرابعة لانفجار مرفأ بيروت في كلمة البطريرك الماروني، فجدّد إدانته للتفجير، مطالبًا بتحقيق دولي وبرفع التدخلات السياسيّة والحزبيّة عن القضاء لكي يستطيع التحرّك من أجل العدالة والحقيقة.
وختم الراعي عظته، سائلًا شفاعة مار إسطفان الدويهي كي يرحم ضحايا تفجير المرفأ ويحرّر القضاء، ويعيد إلى لبنان زهرة العلم وقداسة السيرة.
وجاء في عظة الراعي ما يأتي:
«أيّتها المرأة، عظيم إيمانك، فليكن لكِ ما تريدين» (متى 15: 28)
1.نقيم اليوم على مقربة من دير سيّدة قنّوبين مقرّ البطاركة من سنة 1400 حتى سنة 1840، قداس الشكر لله على عطيّة الطوباوي الجديد البطريرك مار إسطفان الدويهي الذي عاش في هذا المقرّ طوال بطريركيّته التي دامت أربعًا وثلاثين سنة، ما بين 1670 و1704، ما عدا اضطراره مغادرته هربًا من جور الحكّام الحماديين. إنّه لنا اليوم علامة رجاء في المحنة.
فإنّنا نشكر الله على هذه الهبة السماويّة بشخص الطوباوي الجديد. ونشكر البابا فرنسيس الذي أمر بتسجيل اسمه بين الطوباويين في السماء، ونشكر الكاردينال مارتشيللو سيميرارو الذي مثّله وأعلنه باسمه رسميًّا طوباويًّا، وحدّد عيده في الثالث من أيّار، ميلاده في السماء، وذلك في الاحتفال المهيب أوّل من أمس الجمعة في الصرح البطريركي في بكركي.
ويطيب لي أن أهنّئ كنيستنا المارونيّة وجميع الكنائس، ورعايا إهدن-زغرتا، وقنّوبين والديمان والجبّة، وكل لبنان واللبنانيين ومسيحيّي هذا الشرق، راجين تشفّعه من أجل هبة الرجاء والسلام والنعم السماويّة، ومن أجل سير العدالة في دعوى تفجير مرفأ بيروت في ذكراه الرابعة.
وإذ أرحّب بكم جميعًا، أوجّه تحيّة إلى أعضاء مخيّم التعليم المسيحي في رعيّة قطر وإلى عزيزنا الأب شربل مهنّا الراهب المريمي كاهن الرعيّة المارونيّة في دولة قطر منظّم هذا المخيّم.
«أيّتها المرأة، عظيم إيمانك، فليكن لكِ ما تريدين» (متى 15: 28).
بهذه العبارة، امتدح الربّ يسوع إيمان المرأة الكنعانيّة الوثنيّة، وهي من غير اليهود، من الأمم المحتاجة إلى إنجيل المسيح. فمنذ أن نادته باسمه البيبلي، وقعت مناداتها في قلبه وأراد امتحان إيمانها ثلاث مرّات لإظهار متانة هذا الإيمان، وهو العارف ما في قلب الإنسان.
«يا ابن داود ارحمني» هو اسمه البيبلي الذي لم يتوقّع سماعه في منطقة الكنعانيين، في ساحل صور وصيدا. ويعني: «أيّها المسيح الآتي من صلب داود وحامل رحمة الله، ارحمني واشفِ ابنتي المريضة». فقال الربّ في نفسه: «نحن هنا أمام إيمان عظيم يجب التوقّف عنده بالمحنة».
فلم يجبها بكلمة أو التفاتة وهي تصرخ وراءه حتى انزعج التلاميذ وطلبوا إليه صرفها، فأجابهم بشيء من التمييز العنصري: «ما أُرسلت إلا إلى الخراف التي ضلّت من بيت إسرائيل» (متى 15: 24). عندئذٍ، أتت تلك المرأة وسجدت، وقالت: «يا سيّدي، ساعدني!» (متى 15: 15). وهنا كانت المفاجأة الكبرى من الربّ الذي يجيبها بإهانة كآخر امتحان لإيمانها: «لا يحسن أن نأخذ خبز البنين ونطرحه للكلاب». أمّا هي، فأجابته بتواضع أدهش الربّ: «نعم، يا سيّدي، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات المتساقط من مائدة أربابها وتحيا». فما كان من ربّنا إلا الإجابة: «عظيم إيمانكِ، يا امرأة، ليكن لكِ ما تريدين!» (متى 15: 26-28).
3.لا شكّ في أنّ كلّنا يتعجّب من قساوة يسوع وإساءته للمرأة التي جاءت تطلب الرحمة بكل احترام وتواضع، بل بإيمان مميّز كبير وواثق وهي امرأة وثنيّة غريبة عن ثقافته. هي محنة الإيمان! الإيمان الحقيقي والسليم هو الذي يمتحن بالصعوبات: مرض، فشل، فقر، صعوبات زوجيّة وعائليّة، حرب، تهجير، نزوح، اعتداء، وفاة شخص عزيز… الإيمان يكبر ويصمد وينمو عبر صليب المحن والمصاعب.
يُشبه إهمال يسوع للمرأة الكنعانيّة بصمت الله الذي نناجيه بالصلاة، من وسط المحنة، وهو كأنّه غائب، لا يسمع، ولا يشعر. فلا بدّ من الثبات على الإيمان بتوطيد الرجاء بأنّ الله يتدخّل ساعة يشاء، وبأنّ تدخّله يؤول دائمًا لخير الذين يتّقونه (راجع روم 8: 28).
نتعلّم من هذه الحادثة ثقافة اللقاء. فلكلّ لقاء إيجابيّاته. فلا يجوز ولا يحقّ أن يعيش أيّ إنسان متقوقعًا على ذاته، منشغلًا فقط بأموره الشخصيّة، مكتفيًا بذاته وبما عنده.
4.فالطوباوي الجديد البطريرك مار إسطفان الدويهي هو مثال لنا في إيمانه بالله ورجائه وهو لنا «منارة علم وقداسة». إنّه منارة علم إذ ترك لنا وللأجيال المخطوطات التاريخيّة والليتورجيّة والمتنوّعة. فلا أحد يستطيع أن يكتب وينقّب ويصحّح مثله. فهو أكبر البطاركة ولم يأتِ مثله ولن يأتي. وهو «منارة قداسة»، فحياته كلّها إكليريكيًّا من عمر 11 سنة تلميذًا في روما، وكاهنًا 12 سنة، وأسقفًا سنتين، وبطريركًا أربعًا وثلاثين سنة. فكان هو هو رجل إيمان وصلاة وتقشّف وزهد وصبر على المحن التي رافقت حياته كلّها من الداخل والخارج. وهو لنا علامة رجاء في حياتنا الحاضرة.
5.تصادف اليوم الذكرى الرابعة لتفجير مرفأ بيروت، فإنّنا وجميع مطارنة الأبرشيّات في لبنان والأراضي البطريركيّة وبلدان الانتشار، نجدّد إدانتنا لهذا التفجير الذي أوقع مئات القتلى وآلاف الجرحى وهدّم نصف العاصمة. كما نجدّد تعازينا القلبيّة لأهالي الضحايا سائلين لها الراحة الأبديّة ولهم العزاء الإلهي. ونقدّم صلاتنا من أجل شفاء الجرحى. ونطالب برفع التدخّلات السياسيّة والحزبيّة عن القضاء لكي يستطيع التحرّك من أجل العدالة والحقيقة لكي لا يتكرّر مثل هذا الجرم. كما نطالب بتحقيق دولي طالما القضاء المحلّي معطّل للسنة الرابعة. وإنّنا نقدّم هذه الذبيحة الإلهيّة، بشفاعة الطوباوي الجديد البطريرك مار إسطفان، على نيّة ضحايا وشهداء مرفأ بيروت الذين سقطوا من دون أيّ مبرّر، ومن أجل تحقيق العدالة.
6.من المؤسف حقًّا أن نشهد مهزلة امتحانات الشهادة الثانويّة الأخيرة التي أظهرت مدى التفشّي الهائل للفساد والإخفاق التام في إدارة الامتحانات الرسميّة. فلا عجب إذ تحجم الجامعات الأجنبيّة عن قبول الشهادة اللبنانيّة. إنّ هذا الأمر في غاية الخطورة، ولا يمكن القبول به ولا السكوت عنه، وبخاصّة لأنّ لبنان يتميّز، في محيطه العربي وفي العالم، بمستواه التربوي الرفيع. ومن المؤسف جدًّا أن نرى الانحطاط الذي أصاب الدولة في لبنان، يطال الآن وبوضوح القطاع التربوي بشكلٍ كارثي. وقد بدا ذلك جليًّا من خلال محاولات إقصاء شريحة أساسيّة عن إدارة العمليّة التربويّة كان لها تأثيرها الكبير، عبر التاريخ، في تمايز القطاع التربوي الذي جعل العديد من أهالي البلدان المجاورة يختارون مدرسة لبنان وجامعته لتربية أولادهم.
7.فلنُصَلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، إلى الله، بشفاعة الطوباوي الجديد البطريرك مار إسطفان، رجل العلم المقرون بالإيمان والقداسة كي يرحم ضحايا تفجير المرفأ ويحرّر القضاء، ويعيد إلى لبنان زهرة العلم وقداسة السيرة. له المجد والشكر، الآن وإلى الأبد، آمين.
تجدر الإشارة إلى أن الكاردينال مارتشيللو سيميرارو قد غادر صباح اليوم لبنان، عائدًا إلى روما.