جدّد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في رسالة الفصح التي وجّهها إلى اللبنانيين جميعًا والمسيحيين خصوصًا، مقيمين ومنتشرين، بعنوان: “المسيح قام حقًّا قام”، من كنيسة السيّدة في الصرح البطريركي في بكركي، التأكيد أننا نريد السلام لا الحرب، وأن الحياد هو لمصلحة الجميع، داعيًا أهل السلطة إلى الكفّ عن التضحية بلبنان واللبنانيين من أجل شعوب وقضايا ودول أخرى.
وجاء في رسالته: “المسيح قام! حقًّا قام! بفرح القيامة الممزوج بدموع الحزن والألم والقلق، أحيّيكم جميعًا وأهنّئكم بعيد الفصح المجيد، وفي قلوبنا رجاء أقوى من اليأس والقنوط. فبقيامة يسوع فادينا من بين الأموات، انتصرت المحبّة على الموت، والنعمة على الخطيئة، والحياة على الفناء؛ وتشدّد الرجاء بقيامة الإنسان والمجتمعات والأوطان إلى حياة أفضل”.
وقال: “قيامة المسيح هي جوهر إيماننا المسيحي، فلأنه مات لفداء خطايا كل إنسان وخطايا البشرية جمعاء، قام من الموت ليهبنا ثمرة الفداء: الحياة الجديدة بالروح القدس الذي يشركنا روحيًّا في قيامة المسيح. ما جعل بولس الرسول يقول: لو لم يقم المسيح، لكان إيماننا باطلًا، ولكنا شهودًا كذبة، ولحسبنا نفوسنا أشقى الناس ولمتنا بخطايانا (1 كور 15: 14، 15، 19).
كما أن موت يسوع كان حدثًا تاريخيًّا ثابتًا بشهادة قائد المئة (متى 27: 45-56)، وبطعن صدر يسوع بحربة (لو 23: 44-49)، وبدفنه على يد يوسف الرامي (لو 23: 50-56)، كذلك قيامته من بين الأموات حدث تاريخي ثابت، والشهود عليها كثر، وهم: حراس القبر الذين ارتعبوا عند دحرجة الحجر، وللتو أخبروا الأحبار والشيوخ (متى 28: 2-4، 11-15)، مريم المجدليّة التي رأته وناداها باسمها (يو 20: 11-18)، النسوة اللواتي أتين بحنوط صباح الأحد باكرًا، فوجدن الحجر قد دحرج، وأعلمهنّ الملاكان أن يسوع قام (مر 16: 6-7؛ متى 28: 10)، بطرس ويوحنا اللذان رأيا القبر الفارغ واللفائف والمنديل (يو 20: 3-8)، تلميذا عمّاوس اللذان رافقهما يسوع في الطريق وشرح لهما ما كتب عنه في موسى والأنبياء والمزامير، ولم يعرفاه إلا عند كسر الخبز (لو 24: 13-35)، وأخيرًا شهادة الأحد عشر الذين تراءى لهم الربّ في مساء ذاك الأحد (يو 20: 22-29).
إننا نؤكد تاريخيّة موت المسيح وقيامته لكي تطبع حقيقة الموت والقيامة حياة كل إنسان، فيموت عن الخطيئة والشرّ والذات، ليقوم بنعمة المسيح القائم إلى حالة النعمة والخير والعطاء المتفاني”.
وأضاف: “في سرّ المسيح المصلوب والقائم من الموت، اعتلنت لنا رحمة الله العظمى، لكي تكون ثقافتنا المسيحية، فنمارسها تجاه كل إنسان، وبخاصة في الظروف الاقتصادية والمعيشية الخانقة، وبها نسهم في جعل المجتمع والعالم أكثر إنسانية. ومعلوم أنه بقدر ما يفقد الضمير البشري معنى كلمة الرحمة، تحت تأثير الروح المادية والمصالح الفردية وانحلال الأخلاق وتفشي الفساد بمختلف أشكاله، وبقدر ما يبتعد هذا الضمير عن الله، وهو بالحقيقة صوته في أعماق الإنسان، وينأى بالتالي عن ثقافة الرحمة، بالقدر عينه يعود للكنيسة الحق والواجب في التوجه إلى رحمة الله بصراخ شديد (عب 5: 7)، فتتّجه إلى المسيح المعلّق على الصليب والقائم من بين الأموات.
وتكتشف تلك المحبّة الأقوى من الموت والأقدر من الخطيئة ومن أي شر، والتي ترفع الإنسان من الدرك الذي انحدر إليه، وتحرّره في الوقت عينه من أشد المخاطر (راجع الرسالة العامة للقديس البابا يوحنا بولس الثاني، “الرحمة الإلهية” 15).
ما أبعد الجماعة السياسيّة ولا سيّما تلك الحاكمة عندنا عن ثقافة الرحمة الموحاة للبشريّة في سرّ موت المسيح وقيامته: موته لفداء جميع الناس من خطاياهم، وقيامته لبثّ الحياة الإلهيّة فيهم ولقيامتهم إلى حياة أفضل! هذه هي الحقيقة العظمى التي توجّه الضمير الذي يسمّيه المجمع الفاتيكاني الثاني “المركز الأعمق سرّية في الإنسان، والهيكل الذي يختلي فيه بالله، ويستمع إلى كلامه، والشريعة التي تتحقق في حبّ الله والقريب” (الكنيسة في عالم اليوم، 16).
وتابع: “كم يؤلمنا أن نرى الجماعة الحاكمة ومن حولها يتلاعبون بمصير الوطن كيانًا وشعبًا وأرضًا وكرامة! ويؤلمنا بالأكثر أنها لا تدرك أخطاء خياراتها وسياساتها، بل تمعن فيها على حساب البلاد والشعب! وكم يؤلمنا أيضًا أن بعضًا من هذه الجماعة يتمسك بولائه لغير لبنان وعلى حساب لبنان واللبنانيين! وما القول عن الذين يعرقلون قصدًا تأليف الحكومة ويشلّون الدولة، وهم يفعلون ذلك ليوهموا الشعب بأن المشكلة في الدستور، فيما الدستور هو الحلّ، وسوء الأداء السياسي والأخلاقي والوطني هو المشكلة؟
لقد صار واضحًا أننا أمام مخطّط يهدف إلى تغيير لبنان بكيانه ونظامه وهويّته وصيغته وتقاليده. هناك أطراف تعتمد منهجيّة هدم المؤسسات الدستورية والمالية والمصرفية والعسكرية والقضائية، واحدة تلو الأخرى.
وهناك أطراف تعتمد منهجيّة افتعال المشاكل أيضًا لتمنع الحلول والتسويات. فليدرك الجميع أن الحياة الوطنيّة ليست حصصًا، بل هي تكامل قيم ولقاء إرادات وربح مشترك.
الحياة الوطنيّة هي الفرح بالآخر لا الانتصار عليه. فليخرج الجميع من متاريسهم السياسيّة ويلتقوا إخوة في رحاب الوطن وشرعيّة الدولة وتعددية المجتمع. إن معيار إعادة النظر بالنظام هو الحاجة إلى مواكبة العصر والتقدّم وتحقيق الأمن الاجتماعي، لا العودة إلى الوراء وتحقيق المكاسب الفئوية والسياسيّة والطائفية والمذهبية والحزبية.
إن حقوق الطوائف وحصصها تتبخّر أمام حقوق المواطنين في الأمن والغذاء والتعليم والطبابة والعمل والازدهار والسلام. من هذه المنطلقات الحضارية والإنسانية والوطنيّة طرحنا مشروعيّ إعلان حياد لبنان وانعقاد المؤتمر الدولي الخاص به. فلبنان الحيادي هو لبنان الاستقرار والسلام.
أما لبنان المنحاز فهو لبنان الاضطراب والحرب. نحن نريد السلام لا الحرب. الحياد هو لمصلحة الجميع، وينقذ الجميع. أما المؤتمر الدولي، فيزيل النقاط الخلافيّة المتراكمة، وهو خشبة خلاص لأنه سيعطي لبنان عمرًا جديدًا من خلال تثبيت كيانه، وحدوده الدوليّة، وتجديد الشراكة الوطنيّة، وتعزيز السيادة والاستقلال، وإحياء الشرعيّة، وتقوية الجيش، وتنفيذ القرارات الدوليّة، وحلّ موضوعيّ النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين. إن الأمم المتحدة وأصدقاءنا العرب والدوليين منفتحون على نقاش هذا الطرح لأنهم مهتمّون بمساعدة لبنان على بقائه دولة حرة ومميّزة في هذا الشرق”.
وقال: “إننا نعلي الصوت مع جميع اللبنانيين بتأليف حكومة تعيد إنعاش المؤسسات، وتطلق ورشة الإصلاح لتأتينا المساعدات العربيّة والدوليّة الموعودة”. ونتساءل: “لماذا هذا التأخير طالما الجميع يعلنون، إذا صحّت النيّات -أي لا نقول الشيء ونفعل نقيضه- أنهم يريدون حكومة تتميّز بالخصائص والمعايير التالية:
أ-حكومة اختصاصيين مستقلين غير حزبيين يتمتعون بالمهارة والخبرة والحسّ الوطني، فيوحون بالثقة والقدرة على النجاح.
ب-حكومة لا يملك فيها أي طرف سياسي أو حزبي أو نيابي الثلث المعطّل الذي هو أساسًا غير موجود في الدستور أو في الميثاق.
ج-حكومة تتبع في عمليّة تأليفها نصّ المواد الدستورية وروحها ومفهوم الميثاق الوطني من دون فذلكات لا مكان لها في الظرف الراهن.
د-حكومة تلبّي حاجات المواطنين ويرتاح إليها المجتمعان العربي والدولي.
وختم الراعي موجّهًا نداءً إلى معرقلي تشكيل الحكومة: “من وحي السرّ الفصحيّ، حيث تتلألأ المحبّة الإلهيّة اللامتناهية والرحمة الأقوى من الخطيئة، أقول بكل محبّة لجميع المتسبّبين في أزمة عدم تشكيل الحكومة وتداعياتها الاقتصادية والنقدية والمالية والمعيشية: كفّوا عن السلوك المهين والمهيمن والأناني والسلطوي. كفّوا عن التضحية بلبنان واللبنانيين من أجل شعوب أخرى وقضايا أخرى ودول أخرى. كفّوا عن الاجتهادات الشخصيّة في التفسيرات الدستورية وعن البدع الميثاقية. أفرجوا عن القرار اللبناني والشعب.
ومن وحي هذا العيد المبارك أقول للجميع: وطننا لبنان وطن المحبّة لا وطن الأحقاد. وطننا وطن السلام لا وطن الحروب والفتن والاغتيالات. وطننا وطن الحضارة لا وطن الانحطاط. وطننا وطن الانفتاح لا وطن الانعزال، وطننا لبنان هو وطن القديسين. إن قيامة المسيح جعلتنا أبناء القيامة وبناتها، وأضاءت في قلوبنا شعلة رجاء لا تنطفئ. هذه حال أجيالنا الطالعة الواعدة، واللبنانيين الأحرار ذوي الإرادة الصالحة، والقوى الحيّة، وأصحاب الكفايات الذين أضاؤوا شعلة الثورة الحضارية الرافضة بعناد للدولة المرتهنة، والساعين قدمًا نحو بناء دولة حرّة وقويّة بحقّها وقوّتها الذاتية وعلاقاتها العربيّة والدوليّة، وانفتاحها على الأخوّة الإنسانية الشاملة. الكنيسة هي في طليعة السائرين في هذا الطريق الجديد الذي يضيئه نور القيامة. المسيح قام! حقًّا قام!”