في الذكرى السنويّة الثانية على انفجار مرفأ بيروت، أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في خلال القداس الإلهي الذي ترأسه في كاتدرائيّة مار جرجس المارونيّة في بيروت، بمعاونة رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر والمطران بولس الصياح، ومشاركة لفيف من المطارنة والكهنة، وحضور أهالي الضحايا والجرحى والمؤمنين، أن التاريخ لن يُسقط من ذاكرته جميع من سعوا إلى محو حقيقة جريمة العصر وحقّ الشعب في العدالة، وأن الله يدين المسؤولين عن انفجار الرابع من آب.
وجاء في عظة الراعي ما يلي:
«طوبى لأولئك العبيد الذين، متى أتى سيّدهم، وجدهم متيقّظين» (لو 12: 37).
1.لفظة «عبيد» في الكتاب المقدّس مشتقّة من «عَبَدَ». والعبد هو عابد الله الذي يمنحه الله ثقته في ما يحمل من مسؤوليّة في العائلة أو في الكنيسة أو في الدولة. وبالتالي «العبد» هو صاحب مسؤوليّة الذي من واجبه أن يكون منصرفًا إلى عمله، مدركًا مسؤوليّاته عن تأمين الخير العام في مختلف الظروف. إنّه من عداد المسؤولين الذين يطوّبهم الله لأنّهم يمارسون واجباتهم تجاه من هم ضمن إطار مسؤوليّاتهم، فيقول: «طوبى لأولئك العبيد الذين، متى أتى سيّدهم، يجدهم متيقّظين» (لو 12: 37). وإذا لم يكونوا كذلك قائمين بواجب مسؤوليّتهم، يفصلهم سيّدهم ويجعل نصيبهم مع الأشرار (راجع لو 12: 46). «مجيء سيّدهم» يعني حضور الله الذي يطالب المسؤولين، كل المسؤولين، القيام بواجبهم.
2.نجتمع لنحتفل بهذه الليتورجيا الإلهيّة في الذكرى السنويّة الثانية لتفجير مرفأ بيروت، فنقدّم الذبيحة الالهية لراحة نفوس الشهداء المئتين والحادي والعشرين، ولعزاء عائلاتهم وذويهم، وأنسبائهم، ومن أجل شفاء الجرحى الذين أصيبوا بإعاقة دائمة بين الستة آلاف مواطن ومواطنة، وبعض الغرباء غير اللبنانيّين، ولنطالب بالتعويض لهم وللمتضرّرين من هدم بيوتهم ومؤسّساتهم ومتاجرهم ومدارسهم ومستشفياتهم ودور العبادة. ويشترك معنا في هذه الذكرى الثانية البابا فرنسيس بالنداء الذي وجّهه أمس في المقابلة العامّة إلى عائلات الشهداء والشعب اللبناني. فنشكره على محبّته الأبويّة ونصلّي من أجل شفائه التام، ومن أجل تحقيق أمنياته بشأن لبنان، وكما قال، وولادته من جديد. لذلك، نحن نؤمن بقيامة بيروت ومعها لبنان، فنعود منارة الشرق ومستشفى الشرق ومصرف الشرق ووطن التلاقي وحوار الحضارات والأديان بحياده الإيجابي الناشط.
إنّنا نرفع الصوت الغاضب مع جميع هؤلاء في وجه المسؤولين، أيًّا كانوا، وأينما كانوا، ومهما كانوا؛ أولئك الّذين يُعرقلون التحقيق كأنَّ ما جرى مجرّد حادث تافه وعابر لا يستحقّ التوقف عنده، ويمكن معالجته بالهروب أو بتسوية أو مقايضة كما يفعلون عادة في السياسة. ونسأل المسؤولين في الدولة: ماذا يريدون أكثر من هذه الجريمة، جريمة العصر لكي يتحرّكوا؟ وماذا يريد القضاء أكثر من هذا لكي ينتفض لكرامته ويستعيد دوره ويعود قِبلة المظلومين؟
3.نحن اليوم أمام جريمتين: جريمة تفجير المرفأ، وجريمة تجميد التحقيق. فالتجميد لا يقلّ فداحةً عن التفجير لأنّه فعل متعمَّد وإراديّ بلغ حدّ زرعِ الفتنة بين أهالي الضحايا. لا تستطيع السلطات الحاكمة والمهيمنة التبرّؤ ممّا حصل: فمنها من تسبّب بالتفجير، ومنها من علم بوجود المواد المتفجّرة وبخطورتها، وأهمل، ومنها من تلكأ، ومنها من سكت، ومنها من غطّى، ومنها من جَبُنَ، ومنها من عطّل التحقيق، ومنها من وجد في تجميد عمل القاضي المسؤول الحلَّ المريح لكي يتهرّب من مسؤوليّة حسم مرجعيّة التحقيق. إنها لعبة توزيع الأدوار بين عددٍ من المسؤولين على مختلف المستويات الدستوريّة والسياسيّة والأمنيّة والقضائيّة. هؤلاء إلى دينونة الله يُساقون، إذا هربوا من عدالة الأرض أو منعوا سطوعها. والتاريخ لن يُسقط من ذاكرته جميع من سعوا إلى محو حقيقة جريمة العصر وحقّ الشعب في العدالة. والله يدين منذ الآن هؤلاء المسؤولين. اليوم هو «مجيء سيّدهم».
المطلوب أن يستأنف قاضي التحقيق العدلي عمله وصولًا إلى الحقيقة. نحن لا نتّهم أحدًا ولا نظنّ بأحدٍ ولا نُبرّئ أحدًا. الناس في الشارع وأنتم منهم لا يصنعون العدالة، بل يريدون العدالة. إنّ تجميد التحقيق يساوي بين البريء والمذنب. نحن نرفض أن يكون بعض المتّهمين مذنبين وطليقين، وبعضهم الآخر أبرياء ومعتقلين، ومن بينهم من كتب إلى السلطات المعنيّة ونبّه ولا استجابة، بل هو موقوف منذ سنتين من دون محاكمة. ألا يشكّل هذا الواقع الظالم وخز ضمير وتأنيب لدى كل مسؤول؟
4.وكوننا نعرف من الخبرة عن القضاء المسيّس في لبنان، فقد طالبنا منذ اليوم الأوّل لتفجير المرفأ بتحقيقٍ دولي، إذ إن الجريمة قد تكون جريمة ضدّ الإنسانيّة في حال تبيّن أنها عمل مدبّر. وأتت تعقيدات التحقيق المحليّ والعراقيل السياسيّة لتُعطي الأحقيّة في تجديد المطالبة بالتحقيق الدولي إذا استمرّ الوضع كذلك. لا يحقّ لدولة أن تمتنع عن إجراء تحقيق لبناني وتمنع بالمقابل إجراء تحقيق دولي. والمستغرب أنّ جريمة تفجير المرفأ غائبةٌ عن اهتمامات الحكومة قبل استقالتها وبعدها، لا بل أنّ بعض وزرائها يتغافل عنها وبعضهم الآخر يعرقل سير العدالة من دون وجه حقٍّ، ومن دون أن يبادر مجلس الوزراء إلى التحرّك ومعالجة الأمر.
5.وأردنا بهذا الاحتفال أن نضمّ صوتنا إلى صوت أهالي الضحايا والشهداء وعائلاتهم، وإلى صوت الجرحى والمعوّقين، وصوت المتضرّرين. وكأنّهم باتوا جميعهم منسيّين أو حتى مزعجين للمسؤولين في الدولة لأنّهم يشكّلون لهم وخز ضمير، فيما هم يريدون خنق صوت ضميرهم إيّاه الذي هو صوت الله في أعماقهم: أما بين «قايين، أين أخوك؟» (تك 4: 9).
6.يأمرهم ضميرهم: لا تعرقلوا عمل المحقّق العدليّ بطلبات الردّ المتسارعة بحقّه بقصد تكبيل يديه بغية طمس الحقيقة وعرقلة العدالة! لا تعرقلوا التحقيق بالضغط السياسيّ على القضاة وعدم إعطاء أذونات ملاحقة بحقّ مطلوبين إلى التحقيق! لا تعطّلوا التشكيلات القضائيّة للهيئة العامّة لمحكمة التمييز بالامتناع عن توقيعها بقوّة النافذين السياسيّين! لا تتعرّضوا لأهالي الشهداء بالضرب والتوقيف والتحقيق على خلفيّة التظاهر والمطالبة بالعدالة! فإنّكم بذلك تقتلونهم مرّتين!
7.جميع الكوارث التي تحصل في العالم، أكانت من حركة الطبيعة، أم مفتعلة، يُحفظ جزء منها لذاكرة التاريخ، كشاهد لما حصل. هذا ما فتئ يطالب به أهالي الشهداء بالنسبة إلى حماية الأهراءات من السقوط، وهي الشاهد الناطق لجريمة تفجير المرفأ، المسمّاة جريمة العصر!
فلماذا، أيّها المسؤولون في الدولة، تهملون المحافظة على هذه الأهراءات الشاهدة. فلا أفرغتم القمح المتبقّي منعًا لتخميره، ولا دعّمتم الأهراءات تجنّبًا لسقوطها؟ ولماذا لم تستعينوا بمؤازرة الدول الصديقة المجاورة لإطفاء النيران، فتركتموها تتكاثر وتتنامى لأكثر من عشرين يومًا، وكأنّ المقصود تدمير هذه الأهراءات، ومحو الذاكرة!
8.إذا كنّا ننادي باستمرار بوجوب تشكيل حكومة جديدة، وانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة ضمن المهل الدستوريّة، فلكي يكون جلاء حقيقة تفجير المرفأ في رأس أولويّاتها، مع الالتزام أمام الله والوطن وأهالي الشهداء والجرحى والمتضرّرين، وأمام بيروت العاصمة الجريحة، بالسعي الجادّ والمخلص لحسم هذه القضيّة الوطنيّة والإنسانيّة التي تعلو كلّ القضايا. فقط في نور الحقيقة والعدالة نستطيع أن نقف أمام الله، ونمجّده ونشكره، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.