الخوري شربل فخري
بعدما شغر الكرسي الرسولي بانتقال البابا فرنسيس إلى بيت الآب، ارتفعت الأنظار والقلوب معًا نحو مدخنة كنيسة سيستينا، تلك العلامة الصامتة التي باتت تنطق برجاء الكنيسة المنتظِرة. فمنها، وفي لحظة اختلط فيها الترقّب بالصلاة، تصاعد الدخان الأبيض كرمزٍ فصحيّ يعلن ولادة زمن نعمة جديد، وتجلّي مشيئة الله في شخص خليفة بطرس، الراعي الذي أقامه الروح القدس لقيادة شعب الله في دروب الحياة.
وما إن أطلّ الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست على شرفة البركة الرسوليّة، مكلَّلًا بجلال الرسالة البطرسيّة وأمانة الخدمة، حتى نبضت ذاكرة الكنيسة بنداءات العصور الماضية، وتردّد في الأرواح صدى عهد البابا القديس يوحنا بولس الثاني، ذاك الراعي الذي حمل الإنجيل إلى أقاصي الأرض. ولم يكن هذا الصدى تجاوزًا لما بين العهدَيْن، بل هو امتداد لنعمةٍ تعاقبت وتجدّدت في بابويّة الحبر الأعظم بنديكتوس السادس عشر بعمق الفكر اللاهوتي، وفي حبريّة البابا فرنسيس بشجاعة الرحمة وثقافة اللقاء.
إنّه رجع رجاءٍ يتردّد في شعب الله، لا حنينًا إلى ماضٍ منقطع، بل شوقًا إلى أمانة مستمرّة، يسكبها الروح القدس في قلب الكنيسة عبر رعاتها، فيجعل من كل بابا علامةً نابضة بالحياة لحضور المسيح، الراعي الصالح، في مسيرة التاريخ.

من هنا، يتوخّى هذا المقال استكشاف أوجه الصلة العميقة بين حبريّتَي القديس يوحنا بولس الثاني والبابا لاوون الرابع عشر «تلميذي الصليب»، في ضوء مسيرتهما الإيمانيّة، ورؤيتهما اللاهوتيّة، وتكريسهما لمريم العذراء، سعيًا إلى إبراز وحدة الروح في تنوّع الأزمنة، واستمراريّة النعمة في خدمتهما البطرسيّة. وإنّها لعناية إلهيّة أن يصادف قداس تنصيب البابا لاوون الرابع عشر في الذكرى المئة والخمس سنوات على ولادة القديس البابا يوحنا بولس الثاني.
تلميذا الصليب
إنّ «تلميذَي الصليب»، البابا القديس يوحنا بولس الثاني والبابا لاوون الرابع عشر يتعانقان في روحانيّتهما ورؤيتهما الكنسيّة، كما تتعانق أغصان الشجرة الواحدة: لكل غصن انحناءته الفريدة، لكن جميعها تنبثق من جذع واحد وتستنير بشمسٍ واحدة، وتستقي من تربة الإيمان الحيّ ذاتها. فرادة كل منهما لا تناقض الوحدة، بل تكشف عن غنى الروح القدس الذي يبدع في التاريخ ويلهم بسبل جديدة. في يوحنا بولس الثاني، تلتمع جرأة الكلمة، وانبساط القلب الرسولي نحو الأمم، وقداسة الجسد المُفتدى. وفي لاوون الرابع عشر، تشرق بصيرة الإصغاء النبوي، والتمييز الهادئ، والتزام التجديد اللاهوتي المتّزن.
كغصنين ممتدّين في الزمان، يتشابكان في الرجاء، ويتناصّان في العمق، ويتساندان في الخدمة. يجمعهما حبّ مريم، والغيرة على كرامة الإنسان، والاتّحاد بسرّ الصليب. وهكذا، يشكّلان معًا لوحة مفعمة بالحياة لوحدة التقليد الكنسي في تنوّعه، حيث كل روحانية تغني الأخرى، وكل صوت يكمّل ترنيمة الحقّ في الكنيسة الواحدة، حيث يغدو التاريخ أرضًا يزرع فيها الروح القدس ثمارًا متنوّعة من الحقّ والنعمة، تتلاقى كلّها في شجرة الحياة، أي المسيح الحيّ وسط شعبه.
كرامة الإنسان
ركّز القديس يوحنا بولس الثاني حبريّته على أنثروبولوجيا مسيحيّة متجذّرة في سرّ الخلق، مؤكدًا كرامة الإنسان المخلوق على صورة الله. وقد شكّلت سلسلة كرازات «لاهوت الجسد» (1979-1984)1 تأمّلًا فريدًا في معنى الجسد والحبّ البشري والدعوة إلى العطاء الكامل للذات، حيث إنّ الإنسان لا يكتشف ذاته إلا في بذل ذاته بمحبّة.
أمّا البابا لاوون الرابع عشر، فمع اختلاف التحدّيات وسياق الأزمنة، ولا سيّما في ظل التقدّم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، فقد شدّد بدوره على وجوب صون كرامة الإنسان، معتبرًا إيّاها منطلقًا لكل تمييز أخلاقي في العالم المعاصر. كلاهما يلتقيان في رؤية مسيحيّة أصيلة للإنسان، وللدعوة الطبيعيّة إلى الحياة العائليّة بحسب قصد الله وشريعته الإلهيّة.

التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكيّة
أغنى يوحنا بولس الثاني التعليم الاجتماعي الكاثوليكي بسلسلة رسائل بابويّة2 تعالج كرامة العمل والتضامن والعدالة، واضعًا الإنسان في قلب التنمية. أمّا لاوون الرابع عشر، فباحتفاظه باسم يُكَرِّمُ به لاوون الثالث عشر، أراد أن يعلن استمراريّة هذا التعليم، وضرورة تجديده لمواكبة التحوّلات الاقتصاديّة والتقنيّة، في ضوء المبادئ الأخلاقيّة.
روحانيّة مريميّة
تميّز يوحنا بولس الثاني بتفانٍ مريمي جوهري، عبّر عنه بشعار «كلّي لكِ»، علامة على تكريسه الكامل لمريم في المسيح. بدوره، أظهر لاوون الرابع عشر منذ انتخابه تقوى مريميّة متّقدة، تمثّلت بزيارته مزار سيّدة المشورة الصالحة، ودعوته المتكرّرة إلى الاقتداء بمريم كأمّ وشفيعة.
في تكامل شعارَي البابا يوحنا بولس الثاني والبابا لاوون الرابع عشر: «كلّي لكِ» و«نكون واحدًا في الواحد»، نجد مشهدًا لاهوتيًّا يتجلّى عند أقدام الصليب، حيث إنّ الوحدة تفترض التكريس، والتكريس يفترض الوحدة. فمريم، في وقفتها الكهنوتيّة عند الصليب، تجمع التلاميذ وتدخلهم في سرّ الوحدة في المسيح. كل حبّ لمريم هو في العمق انجذاب إلى الله لأنّها أمّ الوحدة والنعمة، حاضرة لتقود الكنيسة إلى من هو «الواحد» الذي به نكون واحدًا.
———————————————————-
[1] تعدّ كرازات القديس يوحنا بولس الثاني عن «لاهوت الجسد» من أعمق ما قدّمته الكنيسة الكاثوليكيّة في تأمّلها اللاهوتي حول سرّ الإنسان. ففي سلسلة المقابلات العامة التي ألقاها بين عامَي 1979 و1984، انطلق البابا من كلمات المسيح نفسه ليكشف عن البعد الإلهي للجسد البشري، بوصفه حاملًا لمعنى الحبّ والدعوة إلى العطيّة الكاملة للذات.
ليست هذه الكرازات مجرّد تأمّل أخلاقي أو تعليم حول الحياة الجنسيّة، بل هي رؤية أنثروبولوجيّة جذريّة تعيد اكتشاف الإنسان في ضوء سرّ الخلق والفداء، وتُظهر كيف أنّ الجسد، في وحدته الذكوريّة والأنثويّة، مدعوّ ليكون أيقونة نابضة بالحياة للثالوث، ووسيلةً للكشف عن محبّة الله في التاريخ.
إنّ «لاهوت الجسد» ليس تعليمًا نظريًّا فحسب، بل هو دعوة عميقة إلى القداسة، وإلى عيش الحبّ البشري بحسب قصد الله منذ البدء، منفتحًا على النعمة التي تجد كمالها في ذبيحة المسيح، عريس الكنيسة.
[2] البابا يوحنا بولس الثاني Laborem Exercens(1981) ، Sollicitudo Rei Socialis (1987)، Centesimus Annus(1991).
[3] البابا لاوون الثالث عشر، Rerum Novarum (1891).
———————————————————-
«قلم غار» موقع رائد في كتابة شهادات الحياة الملهمة، ينقل اختبارات مؤمنين رُصّعت حياتهم بانتصارات مكلّلة بالغار، ويتناول أخبار الكنيسة الجامعة، مع إضاءات حصريّة وموثّقة وموثوقة ووافية وآنيّة. تخطّى حدود الوطن إلى العالميّة. نال بركات أبويّة وبطريركيّة وحبريّة.
يسعى موقعنا منذ انطلاقته، ولا سيّما في النقلة النوعيّة التي جعلته يحتلّ المراتب الأولى في التغطيات الحصريّة عام 2024، إلى إعلاء صوت مسيحيي الشرق المتألمين وإيصال البشرى حتى أقاصي الأرض.
———————————————————-