أسرة تحرير «قلم غار»
عيّن البابا فرنسيس عصر اليوم 21 كاردينالًا جديدًا، في خلال ترؤسه كونسيستوارًا عاديًّا عامًّا في بازيليك القديس بطرس الفاتيكانيّة، مؤكدًا أنّ رسالتهم تكمن في أن يكونوا شهود أخوّة وصنّاع شركة وبناة وحدة.
ولفت الأب الأقدس الانتباه إلى أنّ كلمة «كاردينال» تذكّر بالسير في طريق الربّ إذ تشير إلى المحور المرتكز عليه مصراع الباب، مشدّدًا على أنّ يسوع هو النقطة المحوريّة الموجّهة للحياة ومركز جاذبيّة الخدمة.
وجاء في عظة البابا فرنسيس ما يأتي:
لنفكّر قليلًا في هذا الحدث: كان يسوع صاعدًا إلى أورشليم. لم يكن صاعدًا إلى مجد هذا العالم، بل إلى مجد الله، الذي يتطلّب النزول إلى هاوية الموت. في المدينة المقدّسة، مات على الصليب ليُعيد إلينا الحياة. ومع ذلك، يعقوب ويوحنا اللذان كانا يتخيّلان مصيرًا مختلفًا لمعلّمهما، قدّما طلبهما وسألاه أن يمنحهما مكانَي شرف: «امنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عَن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِك» (مرقس 10: 37).
الإنجيل يوضح هذا التناقض المأساوي: بينما كان يسوع يسير في طريق مضنية وصعود شاقّ يصل به إلى الجلجلة، كان التلاميذ يفكّرون في طريق سهل منحدر لمسيح منتصر. يجب ألا نتشكّك أمام هذا، بل لنتفهّم بتواضع، ولنقل مع مانتزوني: «هذا هو حال الخليط الشائك في القلب البشري» (المخطوبون، الفصل 10).
قد يحدث لنا الأمر نفسه أيضًا: أن يضلّ قلبنا الطريق، فنترك أنفسنا تسير وراء إغراء الشهرة، وشهوة السلطة، أو نسير مدفوعين بمجد بشري (ونحن ندّعي أنّنا نسير) من أجل سيّدنا يسوع المسيح. لهذا، من المهمّ أن ننظر إلى داخلنا، ونقف بتواضع أمام الله وبصدق أمام أنفسنا، ونسأل: إلى أين يذهب قلبي؟ وإلى أيّ اتّجاه يسير؟ هل أخطأت الطريق؟ يُنَبِّهُنا القدّيس أغسطينوس فيقول: «لماذا تسيرون في طرق مقفرة؟ ارجعوا من ضلالكم الذي أبعدكم عن الطريق، وعودوا! أين؟ إلى الله. الوقت ما زال مبكرًا: ارجع أوّلًا إلى قلبك… عُد، عُد إلى القلب… فيه تجد صورة الله. المسيح يقيم في داخل الإنسان، وفي داخلك، أنت تتجدّد بحسب صورة الله» (تعليق على إنجيل يوحنا 18: 10).
العودة إلى القلب للسير من جديد على نفس طريق يسوع، هذا ما نحتاج إليه. واليوم، وبشكل خاص لكم أيّها الإخوة الأعزّاء الذين تنالون رتبة الكاردينال، أودّ أن أقول: احذروا وسيروا في طريق يسوع. وماذا يعني هذا؟
أن نسير في طريق يسوع يعني أوّلًا أن نعود إليه ونضعه من جديد في قلب كلّ شيء. في الحياة الروحيّة كما في الحياة الرعويّة، نوشك أحيانًا أن نركّز على الجوانب الثانويّة، فننسى ما هو أساسي. تحلّ مرارًا الأمور الثانويّة محلّ ما هو ضروري، وتسيطر المظاهر الخارجيّة على ما هو مهمّ حقًّا، ونغرق في أنشطة نعتبرها ملحّة، بدون أن نصل إلى الجوهر. ومع ذلك، نحن بحاجة دائمًا إلى أن نعود من جديد إلى القلب، ونستعيد الأساس، ونتجرّد عن الفائض عن حاجتنا لنلبس المسيح (راجع روما 13: 14). حتى كلمة «الكاردينال» تذكّرنا بذلك، فهي تشير إلى المحور الذي يرتكز عليه مصراع الباب: إنّه نقطة دعم وسند ثابتة. هذا هو المعنى، أيّها الإخوة الأعزّاء: يسوع هو نقطة الدعم والسند الأساسيّة، ومركز جاذبيّة خدمتنا، و«النقطة المحوريّة» التي توجّه كلّ حياتنا.
أن نسير في طريق يسوع يعني أيضًا أن ننمّي فينا الاندفاع إلى اللقاء مع الآخرين. يسوع لم يكن يسير وحده. علاقته بالآب لم تعزله عن قضايا وألم العالم. بل العكس، فهو جاء ليُداوي جراح الإنسان ويخفّف أثقال قلبه، ويزيل صخور الخطيئة ويكسر قيود العبوديّة. وهكذا، وعلى طول الطريق، التقى الربّ يسوع بوجوه الناس التي كانت تتّسم بالآلام، واقترب من الذين فقدوا الرجاء، وأنهض الذين سقطوا، وشفى المرضى. طرق يسوع كانت مليئة بالوجوه والقصص. وبينما كان يمرّ، كان يمسح دموع الباكين، و«يَشفي مُنكَسِري القُلوب ويُضَمِّدُ جِرَاحَهم» (المزمور 147: 3).
المغامرة في الطريق، وفرح اللقاء بالآخرين، والاهتمام بالأكثر ضعفًا: هذا ما يجب أن يلهم خدمتكم ككرادلة. قال الأب بريمو ماتزولاري: «الكنيسة تبدأ على الطريق، وعلى طرق العالم الكنيسة تستمرّ. ولكي تدخلوها، لستم بحاجة لأن تقرعوا الباب ولا أن تنتظروا في غرفة الانتظار. سيروا وستجدونها. سيروا وستكون بجانبكم. سيروا وستكونون في الكنيسة» (زمن الإيمان، بولونيا 2010، 80-81).
أن نسير في طريق يسوع يعني في النهاية أن نكون بناة شركة ووحدة. بينما كانت تهدم آفة المنافسة الوحدة في مجموعة التلاميذ، كانت الطريق التي سار عليها يسوع تقوده إلى الجلجثة. وعلى الصليب، أتمَّ الرسالة التي أُعطيت له: ألا يهلك أحد (راجع يوحنا 6: 39)، وأن يُهْدَم أخيرًا حاجز العداوة (راجع أفسس 2: 14)، فنستطيع كلّنا أن نكتشف أنّنا أبناء للآب نفسه وإخوة في ما بيننا. لذلك، هو ينظر إليكم، أنتم الآتين من تاريخ وثقافات مختلفة وتمثّلون كاثوليكيّة الكنيسة، ويدعوكم إلى أن تكونوا شهودًا على الأخوّة، وصنّاع شركة، وبناة وحدة. هذه هي رسالتكم.
قال القديس البابا بولس السادس لمجموعة من الكرادلة الجدد إنّنا نحن نستسلم أحيانًا، مثل التلاميذ، لتجربة انقسامنا، لكن «تلاميذ المسيح الحقيقيّين يظهرون في الجهد المبذول لتحقيق الوحدة». وأضاف: «نرغب أن يشعر الجميع بالراحة في العائلة الكنسيّة، من دون استبعاد أو عزلة تضرّ بالوحدة في المحبّة، ولا يسعَ أحد للتفوّق على حساب الآخرين… علينا أن نعمل ونصلّي ونتألّم ونجاهد لنشهد للمسيح القائم من بين الأموات» (كلمة في مناسبة اجتماع مجمع الكرادلة، 27 حزيران 1977).
أيّها الإخوة الأعزّاء، بهذا الروح ستُحدثون فرقًا. وفقًا لكلام يسوع عندما كان يتكلّم على المنافسة المفسدة لهذا العالم، قال للتلاميذ: «فلَيسَ الأَمرُ فيكم كذلِك» (مرقس 10: 43). وكأنّه يقول: اتبعوني في طريقي، وستكونون مختلفين، وستكونون علامة مضيئة في مجتمع مهووس بالمظاهر والبحث عن المراكز الأولى. «لا يكن الأمر فيكم كذلك»، وكرّر يسوع: «أحبّوا بعضكم بعضًا بمحبّة أخويّة وكونوا خدّامًا بعضكم لبعض، خدّامًا للإنجيل».
أيّها الإخوة الأعزّاء، لِنَسِرْ معًا على طريق يسوع. ولنَسِرْ بتواضع واندهاش وفرح.