أكد البابا فرنسيس، في خلال مشاركته في المؤتمر السابع لقادة الأديان العالميّة والتقليديّة الذي انعقد صباح اليوم في مدينة نور سلطان الكازاخستانيّة، أن الوقت حان من أجل التحرّر من الأصوليّة وجعل القلوب صافية ورحيمة، متناولًا 4 تحدّيات يواجهها العالم وهي الآتية: جائحة كورونا، والسلام، والاستقبال الأخويّ، والعناية بالبيئة.
وألقى الأب الأقدس خطابًا قال فيه: أمام اللاتَناهي الذي يهيمن علينا ويجذبنا، تذكِّرُنا الأديان بأنّنا خلائق: لا نقدر على كلّا شيء، لكننا نساءٌ ورجالٌ في طريقنا إلى الهدف السماوي عينه. نشترك في كوننا خلائق، وهذا يجعل بيننا طابعًا مشتركًا، وأخُوّة حقيقيّة. ويذكِّرُنا بأنّ معنى الحياة لا يمكن اختزاله في اهتماماتنا الشخصيّة، بل هو منقوش في الأخوّة التي تميّزنا. نحن ننمو فقط مع الآخرين وبفضلهم.
العالم ينتظر منا مثال نفوس يقظة وأذهان صافية، وينتظر تديُّنًا حقيقيًّا. لقد حان وقت التحرّر من الأصوليّة التي تلوّث كلّ عقيدة وتفسدها. حان الوقت لجعل القلب صافيًا ورحيمًا. نحن بحاجة إلى الدين للاستجابة لعطش العالم إلى السلام، والعطش إلى اللاتَناهي الذي يسكن قلب كلّ إنسان.
إنّ الحرّية الدينيّة هي الشرط الأساسي لتنميةٍ إنسانيّة حقيقيّة ومتكاملة. نحن خلائق حرّة. الحرّية الدينيّة هي حقّ أساسي وأوّلي، وغير قابل للتصرّف، ويجب تعزيزه في كلّ مكان، ولا يمكن حصره في حرّية العبادة وحدها. في الواقع، من حقّ كلّ إنسان أن يشهد علنًا لعقيدته، من دون أن يفرضها أبدًا. كما أنّ عزل أهمّ عقيدة في الحياة إلى المجال الخاصّ من شأنه أن يحرم المجتمع من ثروة هائلة.
تمثّل الجائحة، بين الضعف والعلاج، التحدّي الأوّل من 4 تحدّيات عالميّة، أودّ تحديدها، وهي تدعو الجميع -وخاصّة الأديان- إلى المزيد من الوحدة في مقاصدنا. لقد وضعتنا جائحة كورونا جميعًا على قدم المساواة. شعرنا جميعًا بالهشاشة، وكلّنا بحاجة إلى المساعدة؛ لا أحد مستقلٌّ استقلالًا كاملًا، ولا أحدَ مكتفٍ بذاته بصورة كاملة. لذلك، لا يمكننا الآن تبديد هذه الحاجة إلى التضامن التي شعرنا بها، فنتابع تقدُّمَنا وكأنّ شيئًا لم يحدث، من دون أن نسمح لأنفسنا بأن نستجيب لكلّ المتطلّبات التي تنادينا لمواجهة الظروف الملّحة التي تهمّ الجميع معًا. وهنا، لا يجوز أن تكون الأديان لامبالية: فهي مدعوّة إلى أن تكون في الطليعة لتعزّز الوحدة أمام المحن التي تهدّد الأسرة البشريّة بالمزيد من التقسيم.
إن المؤمنين في مرحلة ما بعد الجائحة مدعوُّون إلى الاهتمام بالإنسانيّة بكلّ أبعادها، وإلى أن يصبحوا صانعي شركة ووحدة، وشهودًا لتعاونٍ يتغلَّب على أسوار انتماءاتهم الجماعيّة والعرقيّة والقوميّة والدينيّة. لنصبح ضمائر نبويّة وشجاعة، ولنَكُنْ قريبين من الجميع، ولا سيّما المنسيين الكثيرين اليوم، والمهمّشين، وأضعف شرائح المجتمع وأفقرها، والذين يعانون في الخفاء وفي صمت، بعيدًا عن الأضواء.
يقودنا هذا إلى التحدّي الثاني: تحدّي السلام. وقد اهتمّ الحوار بين قادة الأديان بشكل أساسي بهذا الموضوع في العقود الأخيرة. ومع ذلك، فإنّنا نرى أيّامنا هذه ما زالت تتَّسِم بآفة الحرب، وبمناخِ مواجهات مستعرة، وبعدم القدرة على التراجع ومدّ اليد إلى الطرف الآخر. ولنُوحِّدْ الجهود حتى لا يصبح الله القدير مرّة أخرى رهينة إرادة القوّة البشريّة. الله سلام ويقود دائمًا إلى السلام، لا إلى الحرب، أبدًا. لذلك، دعونا نزداد التزامًا بتعزيز الحاجة إلى حلّ النزاعات، لا بتعليلات القوّة التي لا تؤدي إلى نتيجة، ولا بالأسلحة والتهديدات، لكن بالوسائل الوحيدة التي باركتها السماء والجديرة بالإنسان: اللقاء والحوار، والمفاوضات المتأنّية التي تُجرَى مع التفكير بشكل خاصّ في الأطفال والأجيال الشابة. إنّها تجسّد الأمل في أنّ السلام لن يكون نتيجة هشّة لمفاوضات مملّة، بل ثمرة التزام تربوي دائم، يعزّز أحلامهم في التنمية والمستقبل.
التحدّي الثالث هو الترحيب الأخويّ. إن قبول الإنسان يقتضي جهدًا كبيرًا. كلّ يوم، يتمّ التخلّص من الذين لم يولدوا بعد، ومن الأطفال والمهاجرين وكبار السنّ. هناك نزوحٌ جماعي كبير اليوم: من المناطق الأكثر حرمانًا يحاولون الوصول إلى المناطق الأكثر ثراءً. هذا ليس خبرًا من الأخبار، هذه حقيقة تاريخيّة تتطلّب حلولًا مشتركة وبعيدة النظر. بالطبع، إنّه أمر غريزي أن يدافع الإنسان عن مكتسباته في الأمن، فيغلق الأبواب خوفًا من الغير. ومن الأسهل الشكّ في الغريب واتهامه وإدانته بدل معرفته وفهمه. إنّه واجبنا أن نتذكّر أنّ الخالق الذي يسهر على خطوات كلّ مخلوق، يحثّنا على النظر إلى المخلوقات نظرة شبيهة بنظرته، نظرة تتعرّف على وجه الأخ.
التحدّي العالمي الأخير الذي يواجهنا هو حماية بيتنا المشترك. في مواجهة الاضطرابات المناخيّة، يجب حمايته حتى لا يُخضَعَ لمنطق الكسب، بل يُحفَظ للأجيال المقبلة، ولتسبيح لخالق. أعدَّ العلِيُّ لنا بحُبٍّ بيتًا مشتركًا للحياة. ونحن، الذين نعترف بأنّه بيتنا، كيف يمكننا السماح بتلويثه والإساءة إليه وتدميره؟ لنوحِّد الجهود أيضًا في هذا التحدّي. لنفكّر على سبيل المثال في إبادة الغابات، والاتجار غير المشروع بالحيوانات الحيّة، وتربية الحيوانات بشكل مكثّف. إنّها عقليّة الاستغلال التي تدمّر البيت الذي نعيش فيه. ليس هذا فقط: بل يؤدّي كلّ هذا إلى تجاوز الرؤيّة الدينيّة التي تحترم العالم الذي يريده الخالق. لذلك من الضروري دعم حماية الحياة وتعزيزها بكل أشكالها.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنَسِرْ معًا، حتى تزداد مسيرة الأديان دائمًا مودّة وصداقة. ليحرِّرْنا العليُّ من ظلال الشكّ والباطل.. لا نبحَثْ عن مواقف توفيقيّة وهميّة، لكن لنحافِظْ على هويّاتنا منفتحةً على شجاعة قبول الآخر واللقاء الأخويّ. بهذه الطريقة فقط، في الأوقات المظلمة التي نعيشها، نتمكّن من أن نُشِعَّ نور الخالق.
المصدر: فاتيكان نيوز