شكّلت الجذور الرسوليّة المشتركة محور كلمة البابا فرنسيس في خلال لقائه رئيس أساقفة أثينا واليونان للكنيسة الأرثوذكسية إيرونيموس الثاني وممثّلي الكنيسة إذ أكد الأب الأقدس أنه أتى حاجًّا لتجديد الشركة الرسوليّة وتغذية المحبّة الأخويّة، مشدّدًا على أن الروح القدس هو زيت الشركة والحكمة والتعزية.
واستهلّ البابا فرنسيس كلمته بالقول: “نِعمَةٌ وسَلامٌ مِن لَدُنِ اللهِ” (رو 1: 7). أحيّيك بهذه الكلمات التي قالها الرسول الكبير بولس، وهي الكلمات نفسها التي وجّهها إلى المؤمنين من أهل رومة في خلال وجوده على أرض اليونان. لقاؤنا اليوم يجدّد هذه النعمة وهذا السلام.
ثمّ، تابع البابا قائلًا إنه يأتي إلى هنا حاجًّا، باحترام وتواضع كبيرين من أجل تجديد تلك الشركة الرسوليّة وتغذية المحبّة الأخويّة.
وذكّر الأب الأقدس بعد ذلك بلقائه رئيس أساقفة أثينا واليونان للكنيسة الأرثوذكسية إيرونيموس الثاني قبل خمس سنوات في لسبوس في حالة الطوارئ المرتبطة بإحدى أكبر المآسي في عصرنا، وهي مأساة الكثير من الإخوة والأخوات المهاجرين.
وأكد البابا أننا لا يمكننا أن نتركهم في اللامبالاة، ويُنظر إليهم على أنهم عبءٌ يجب التعامل معه، أو أسوأ من ذلك، أن نلقي مسؤوليّته على آخرين. ثمّ، توقّف عند النظر إلى البحر الأبيض المتوسط الذي يحيط بنا، ليس فقط على أنه مكان يثير القلق ويفرّق، ولكن أيضًا على أنه بحرٌ يوحّد.
وانطلاقًا من الحديث عن أشجار الزيتون المعمّرة التي توحّد الأرض حولها، أراد البابا التأمّل في الجذور التي نتقاسمها، فقال: إن جذورنا المشتركة هي الجذور الرسوليّة، مضيفًا أن هذه الجذور التي نمت من بذار الإنجيل في الثقافة الهيلينيّة بدأت تعطي ثمارًا كثيرة، مذكّرًا بالآباء القدامى الكثيرين والمجامع المسكونيّة الكبرى الأولى.
وتابع البابا فرنسيس متحدّثًا بأسف عن أننا كبرنا مبتعدين، وقد أصابتنا السموم الدنيويّة، وزادت الشكوك من المسافة بيننا، وتوقّفنا عن تنمية الشركة. واعترف بوجود أعمال ومواقف علاقتها ضعيفة أو لا علاقة لها بيسوع والإنجيل، بل مطبوعة بالأحرى بالتعطّش إلى المكاسب والسلطة، أعمال ومواقف أذبلت الشركة، وأضاف أنه يشعر بالحاجة إلى تجديد طلب الغفران إلى الله والإخوة على الأخطاء التي ارتكبها الكثير من الكاثوليك إلا أنه أراد التأكيد من جهة أخرى على العزاء الكبير الناتج عن اليقين بأن جذورنا رسوليّة، وأنه على الرغم من تشوّهات العصر، فإن نبتة الله تنمو وتؤتي ثمارًا في الروح نفسه، وهي نعمة أن نعترف بثمار بعضنا البعض، وأن نشكر الربّ معًا عليها.
وانطلاقًا من الحديث عن الزيتون، تناول البابا فرنسيس المنتج النهائي لهذه الأشجار أي الزيت، الذي قدّم النور الذي أضاء بدوره ليالي العصور القديمة، مضيفًا: يجعلنا الزيت نفكّر في الروح القدس الذي وَلد الكنيسة. والروح القدس فقط ببريقه الذي لا يغيب، يمكنه أن يبدّد الظلام ويضيء خطوات مسيرتنا.
وتوقّف الأب الأقدس أوّلًا عند كون الروح القدس زيت الشركة، مذكّرًا بحديث صاحب المزامير عن الزيت الذي يُنَضِّر وجه الإنسان. وتابع أننا بحاجة اليوم إلى أن نعترف بالقيمة الفريدة التي تتألّق في كلّ إنسان، وفي كلّ أخ! وإدراك هذه الوحدة الإنسانيّة هو نقطة الانطلاق لبناء الشركة.
وأضاف البابا: تحمل الشركة بين الإخوة البركة الإلهيّة، وتشبّهها المزامير بـ”الزيت الطيّب على الرأس، والنازل على اللّحية” (سفر المزامير 133: 2). لذلك، يدفعنا الروح الذي ينسكب في أذهاننا إلى أخوّة أكثر قوّة، وإلى أن نبني أنفسنا في الشركة. لا نخف بعضنا بعضًا، إذًا، بل لنساعد بعضنا بعضًا على التعبّد لله وخدمة قريبنا.
وتضرّع الأب الأقدس مذكّرًا بكلمات القديس بولس: “حيث يكون روح الربّ، تكون الحرّيّة”، كي يتغلّب روح المحبّة على مقاومتنا، ويجعلنا بناة للشركة. وتساءل: كيف يمكننا أن نشهد أمام العالم للوفاق في الإنجيل، إن كنّا نحن المسيحيّين ما زلنا منفصلين؟ وكيف يمكننا أن نعلن محبّة المسيح التي تجمع النّاس إن لم نكن متّحدين؟
ثمّ، تحدّث البابا فرنسيس عن كون الروح القدس زيت الحكمة، وقال: لقد مَسَحَ المسيح ويريد أن يلهم المسيحيّين. لنَنْم، في الطاعة لحكمته الوديعة، في معرفة الله ولننفتح على الآخرين. وأشاد في هذا السياق باهتمام الكنيسة الأرثوذكسيّة في اليونان بالتنشئة والإعداد اللاهوتي، مذكّرًا بالتعاون بين الكنيستين على الصعيد الثقافي والمؤتمرات والمنتديات المشتركة، ومشاركة كنيسة اليونان الفعّالة في اللجنة الدوليّة المشتركة للحوار اللاهوتي. وأكد البابا أن هذه المناسبات مكّنت من إنشاء علاقات ودّيّة وإطلاق تبادل مفيد بين الأكاديميّين من كنائسنا، وتضرّع كي يساعدنا الروح القدس في الاستمرار بحكمة في هذه المسارات.
ثمّ، انتقل الأب الأقدس إلى الحديث عن كون الروح القدس زيت التعزية أي المؤيّد الذي يبقى قريبًا منّا، بلسمًا للنفس، وشفاءً للجراح، وقال: مَسَحَ الروح القدس المسيح حتّى يُعلن البشرى للفقراء، وللأسرى تخلية سبيلهم، والفرج للمظلومين (لو 4: 18). ولا يزال يدفعنا إلى الاهتمام بالأكثر ضعفًا وفقرًا، وتوجيه نظر العالم إلى قضيّتهم، التي هي قضيّة أساسيّة في نظر الله.
وأضاف البابا فرنسيس: لنطوّر معًا أشكالًا من التعاون في أعمال المحبّة، ولننفتح ونتعاون في القضايا الأخلاقيّة والاجتماعيّة لخدمة بشر زمننا، ونحمل لهم تعزية الإنجيل. في الواقع، يدعونا الروح القدس اليوم أكثر من الماضي إلى شفاء جراح البشريّة بزيت المحبّة.
ثمّ، ذكّر الحبر الأعظم بطلب المسيح نفسه من تلاميذه في لحظة الضيق، عزاء القرب والصلاة، مضيفًا: وهكذا، تقودنا صورة الزيت إلى بستان الزيتون. قال يسوع: “امكثوا هنا واسهروا” (مر 14: 34)، كان طلبه إلى الرسل في صيغة الجمع. اليوم أيضًا يريدنا أن نسهر ونصلّي حتّى نحمل إلى العالم تعزية الله، ونشفي علاقاتنا الجريحة، يجب علينا أن نصلّي من أجل بعضنا البعض. هذا ضروريّ من أجل الوصول إلى تنقية الذاكرة التاريخيّة. وبنعمة الروح القدس، إن تلاميذ الربّ، تحرّكهم المحبّة وشجاعة الحقيقة والإرادة الصادقة في تبادل الغفران وفي المصالحة، لمدعوّون إلى إعادة النظر معًا في ماضيهم المؤلم.
وتابع الأب الأقدس قائلًا: إن هذا ما يحثّنا عليه بشكل خاص الإيمان بالقيامة، مضيفًا: لقد تصالح الرسل، الخائفون والمتردّدون، مع خيبة الأمل المدمّرة بسبب آلام المسيح، عندما رأوا الربّ يسوع القائم من بين الأموات أمامهم. وتحديدًا من جروحه التي بدا شفاؤها مستحيلًا، استقوا أملًا جديدًا، ورحمة غير مسبوقة، ومحبّة أعظم من أخطائهم وبؤسهم، بإمكانها أن تحوّلهم إلى جسد واحد، يوحّده الروح القدس مع تعدّد أعضاء مختلفة كثيرة. ليحلّ علينا روح المصلوب والقائم من بين الأموات، وليعطنا نظرة صافية وهادئة في الحقيقة، تحييها الرحمة الإلهيّة، قادرة على أن تحرّر الأرواح، وتثير في كلّ واحد منّا استعدادًا جديدًا للحياة. ليساعدنا على ألا نبقى عاجزين بسبب سلبيّات الماضي والأحكام المسبقة القديمة، بل لننظر إلى الواقع بعيون جديدة. عندئذٍ، ستُفسِحُ ضيقات الماضي المجال لتعزية الحاضر، وسنتعزّى بكنوز النعمة التي سنكتشفها مجدّدًا في الإخوة.
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول: “صاحب الغبطة، وأخي العزيز، ليرافقنا في هذه المسيرة العديد من القدّيسين اللامعين في هذه الأرض، والشهداء، الذين للأسف، هم أكثر عددًا في العالم اليوم ممّا كانوا عليه في الماضي. هم من كنائس مختلفة على الأرض، ويعيشون معًا في السماء نفسها. ليتشفّعوا حتّى يفيض علينا الروح القدس، زيت الله المقدّس، في عنصرة متجدّدة، مثلما فاض على الرسل الذين نتحدّر منهم: وليوقد في قلوبنا الرغبة في الشركة، وينيرنا بحكمته ويمسحنا بتعزيته”.
المصدر: فاتيكان نيوز