“عندما يتمّ رفض الفقراء، يتمّ رفض السلام. إن الانغلاقات والتعصّب القومي يؤدّيان إلى عواقب وخيمة”. هذا ما أكده البابا فرنسيس في كلمته للاجئين في “مركز الاستقبال وتدقيق الهويّات” في ميتيليني في جزيرة لسبوس.
وألقى الأب الأقدس كلمة، بعد استماعه إلى شهادة حياة أحد اللاجئين وأحد المتطوّعين، استهلّها بما يلي: أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أشكركم على كلماتكم… أنا هنا مجدّدًا لكي ألتقي بكم. أنا هنا لأقول لكم إنني قريب منكم. أنا هنا لأرى وجوهكم، وأنظر في عيونكم. عيون مفعمة بالخوف والانتظار، وعيون شهدت العنف والفقر، وعيون استنزفتها دموع كثيرة. لخمس سنوات خلت، قال البطريرك المسكوني والأخ العزيز برتلماوس في هذه الجزيرة، شيئًا أثّر فيّ: “إن الذي يخاف منكم لا ينظر في عيونكم. الذي يخاف منكم لم يرَ وجوهكم. إنّ الذي يخاف منكم لا يرى أبناءكم. وينسى أن الكرامة والحرّيّة تذهبان أبعد من الخوف والانقسام. وينسى أن الهجرة ليست مشكلة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا واليونان بل هي مشكلة العالم”.
وتابع الأب الأقدس: نعم، إنها مشكلة العالم، وأزمة إنسانيّة تطال الجميع. لقد ضربتنا الجائحة على مستوى عالمي، وجعلتنا جميعًا نشعر بأننا في القارب عينه، وجعلتنا نختبر معنى أن تكون لدينا المخاوف عينها. لقد فهمنا أن علينا أن نواجه القضايا الكبيرة معًا لأن الحلول المجزّأة ليست ملائمة في عالم اليوم. ولكن بينما يتمّ منح اللقاحات بمشقّة على مستوى كوكب الأرض، ويبدو أن شيئًا، على الرغم من التأخيرات والشكوك العديدة، يتحرّك في إطار مكافحة التغيّرات المناخيّة، يبدو أن كل شيء يختفي بشكل رهيب في ما يتعلّق بالهجرة. ومع ذلك، هناك أشخاص وأرواح بشريّة في خطر، ومستقبل الجميع في خطر، ولكنّه سيكون هادئًا فقط إذا تمّ إدماجه. وبالتالي، إذا تصالح المستقبل مع الأشخاص الأشدّ ضعفًا، عندها فقط سيكون مزدهرًا لأنه عندما يتمّ رفض الفقراء، يتمّ رفض السلام. إن الانغلاقات والتعصّب القومي -كما يعلّمنا التاريخ- يؤدّيان إلى عواقب وخيمة.
وقال البابا فرنسيس: في الواقع، كما ذكّر المجمع الفاتيكاني الثاني، “إن الإرادة الراسخة لاحترام البشر والشعوب الأخرى، والالتزام بتقديس كرامتهم وعيش الأخوّة بمثابرة، كل هذه الأمور هي ضروريّة من أجل بناء السلام”. إنه لوهم أن نفكّر أنه يكفي لكي نحمي أنفسنا، وأن ندافع عن أنفسنا من الأشخاص الأشدّ ضعفًا الذين يقرعون بابنا. إن المستقبل سيضعنا في تواصل أكبر مع بعضنا البعض. ولكي نوجّهه نحو الخير، لا تفيد الأعمال الأحادية الجانب، وإنما سياسات طويلة المدى. أكرّر: هذا ما يعلّمه التاريخ ولكنّنا لم نتعلّم بعد. لا تديروا ظهوركم للواقع، وتوقفوا عن التهرّب المستمر من المسؤوليّة، ولا تفوّضوا مسألة الهجرة دائمًا للآخرين، وكأن أحدًا لا يهتم، وكأنه مجرد عبء لا فائدة منه وعلى أحد ما أن يتكبّده.
وأضاف الحبر الأعظم: أيها الإخوة والأخوات، إن وجوهكم وأعينكم تطلب منا ألا ندير وجهنا إلى الجهة الأخرى، وألا نتنكّر للإنسانيّة التي توحّدنا، وأن نجعل قصصكم قصصنا وألا ننسى مآسيكم. كتب إيلي فيزيل، الشاهد على أكبر مأساة في القرن الماضي: “لأنني أتذكّر أصلنا المشترك، فأنا أقترب من إخوتي البشر. وذلك لأنني أرفض أن أنسى أن مستقبلهم لا يقلّ أهميّة عن مستقبلي”. في هذا الأحد، أصلّي إلى الله لكي يوقظنا من جديد من النسيان أمام من يتألّم، ويخرجنا من الفردانيّة التي تستثني الآخرين، ويوقظ القلوب الصمّاء لاحتياجات الآخرين. وأصلّي أيضًا للإنسان، لكلّ إنسان: لكي نتغلّب على شلل الخوف، واللامبالاة التي تقتل، وعدم الاهتمام الساخر الذي وبقفّازات مخمليّة يحكم بالموت على الذين يعيشون على الهامش! لنمنع الفكر السائد من جذوره، ذاك الفكر الذي يدور حول الأنا والأنانية الشخصيّة والوطنيّة اللتين أصبحتا المقياس والمعيار لكل شيء.
وتابع البابا فرنسيس: لقد مرّت خمس سنوات على الزيارة التي قمتُ بها إلى هنا مع الأخوين العزيزين برتلماوس وإيرونيموس. بعد كل هذا الوقت، نرى أن القليل قد تغيّر حول قضيّة الهجرة. بالطبع، التزم كثيرون في الاستقبال والادماج، وأودّ أن أشكر المتطوّعين الكثيرين والذين على كل المستويات -المؤسساتيّة والاجتماعيّة والخيريّة- قد بذلوا جهودًا كبيرة لكي يعتنوا بالأشخاص وبمسألة الهجرة. كما أعترف بالالتزام في تمويل مرافق استقبال وبنائها، وأشكر من قلبي السكان المحليين على الخير الكبير الذي صنعوه والتضحيات العديدة التي قدّموها. لكن علينا أن نعترف بمرارة أن هذا البلد، مثل بلدان أخرى، لا يزال تحت الضغط وأن هناك في أوروبا من يصرّ على التعامل مع المشكلة كأنها شأن لا يعنيهم. وما أكثر الأوضاع والظروف التي لا تليق بالإنسان! كم من البؤر الساخنة التي يعيش فيها المهاجرون واللاجئون في ظروف قصوى، من دون أن يلوح في الأفق أيّ حلّ! ومع ذلك، علينا أن نحافظ على الدوام على احترام الأشخاص وحقوق البشر، ولا سيّما في القارّة التي تنادي بتعزيزهم وحمايتهم في العالم، كما وعلينا أن نضع كرامة كل فرد فوق كل شيء!
وقال الحبر الأعظم: من المحزن أن نسمع أن الحلول التي تمّ اقتراحها هي استخدام الأموال العامة لبناء الجدران. يمكننا بالتأكيد أن نفهم المخاوف والشكوك والصعوبات والمخاطر. إن الشعور بالتعب والإحباط يتفاقم بسبب الأزمات الاقتصاديّة والجائحة، ولكن رفع الحواجز لا يحلّ المشاكل ولا يحسِّن التعايش، وإنما يمكننا ذلك من خلال توحيد الجهود من أجل العناية بالآخرين، وفقًا للإمكانيّات الواقعيّة لكل واحد وبما يتّفق مع القانون، واضعين على الدوام في المقام الأوّل القيمة التي لا يمكن قمعها لحياة كل إنسان. وكما قال إيلي فيزيل: “عندما تكون الحياة البشريّة في خطر، وكرامة الإنسان في خطر، تصبح الحدود الوطنيّة بدون معنى”.
وأضاف الأب الأقدس: في مجتمعات مختلفة، بدأ يتعارض بشكل إيديولوجي الأمن والتضامن، المحلّي والعالمي، والتقاليد والانفتاح. بدلًا من أن ننحاز بحسب الأفكار، قد يساعدنا أن ننطلق من الواقع: أن نتوقف، ونوسّع نظرنا، ونغوص في مشاكل القسم الأكبر من البشريّة، مشاكل شعوب كثيرة ضحايا حالات طوارئ إنسانيّة، لم يصنعوها هم بل كانوا ضحاياها فقط، وغالبًا بعد تاريخ طويل من الاستغلال الذي لا يزال قائمًا. من السهل أن نجرّ الرأي العام ونبعث فيه الخوف من الآخر، ولكن لماذا لا نتحدّث بالموقف عينه عن استغلال الفقراء، والحروب المنسيّة والتي غالبًا ما يتمّ تمويلها ببذخ، وعن الاتفاقيّات الاقتصاديّة التي تمّ إبرامها على حساب الأشخاص، وعن المناورات الخفيّة لصناعة الأسلحة والإتجار بها؟
وقال البابا فرنسيس: علينا أن نواجه الأسباب البعيدة، وليس الفقراء الذين يدفعون ثمن عواقبها، ويتمّ استخدامهم أيضًا للدعايات السياسيّة! لكي نزيل الأسباب العميقة، لا يكفي أن نُخمد حالات الطوارئ وحسب وإنما نحن بحاجة لأعمال ملموسة، وعلينا أن نتعامل مع التغييرات التاريخيّة برؤية واسعة إذ لا وجود لإجابات سهلة على المشاكل المعقّدة، وإنما هناك ضرورة لمرافقة العمليّات من الداخل من أجل تخطّي تهميش الأقليّات وتعزيز إدماج بطيء وضروري لكي نقبل ثقافات الآخرين وتقاليدهم بأسلوب أخويّ ومسؤول.
وتابع الحبر الأعظم: وبالتالي، إذا أردنا بشكل خاصّ أن ننطلق من جديد، لننظر إلى وجوه الأطفال. ولنجد الشجاعة لكي نخجل أمامهم، هم الأبرياء وهم المستقبل. يُسائلون ضمائرنا ويسألوننا: “أيّ عالم تريدون أن تعطونا؟” لا نهربنَّ بسرعة من صور أجسادهم الصغيرة الممدّدة بلا حياة على الشواطئ. إن البحر الأبيض المتوسط الذي جمع منذ آلاف السنين شعوبًا مختلفة وأراضي بعيدة، قد أصبح مقبرة باردة بدون شواهد للقبور. إن حوض المياه الكبير هذا، مهد العديد من الحضارات، يبدو الآن مرآة للموت. لا نسمحنَّ لبحرنا بأن يتحوّل إلى بحر موت بائس، ولا أن يُصبح مسرحًا للنزاع! لا نسمحنَّ لبحر الذكريات هذا بأن يتحوّل إلى “بحر نسيان”. من فضلكم، لنوقف غرق الحضارة هذا!
وأضاف الأب الأقدس: على ضفاف هذا البحر، صار الله إنسانًا. وتردّد صدى كلمته التي حملت إعلان الله الذي هو أب ومرشد لجميع البشر. إن الله يحبّنا كأبناء، ويريدنا إخوة. ولكنّه يُهان، عندما نحتقر الإنسان المخلوق على صورته، ونتركه تحت رحمة الأمواج، وفي خضمّ اللامبالاة التي يتمّ تبريرها أحيانًا حتى باسم القيم المسيحيّة المزعومة. أمّا الإيمان فهو يتطلّب المحبّة والرحمة، ويحثّ على الضيافة، ضيافة الغريب التي طبعت الثقافة الكلاسيكيّة، ووجدت بعدها في يسوع تجلّيها النهائي، ولا سيّما في مثل السامري الصالح وفي كلمات الفصل الخامس والعشرين من إنجيل متى. هذه ليست أيديولوجيّة دينيّة، وإنما جذور مسيحيّة ملموسة. ويسوع يؤكّد رسميًّا أنه حاضر في الغريب واللاجئ والعريان والجائع. وعلى البرنامج المسيحيّ أن يكون حيث يكون المسيح. نعم، لأن البرنامج المسيحيّ، كما كتب البابا بندكتس، هو قلب يرى.
وخلص البابا فرنسيس إلى القول: لنرفع صلاتنا الآن إلى سيّدتنا مريم العذراء لكي تفتح لنا أعيننا على آلام الإخوة. هي التي انطلقت مسرعة في طريقها إلى نسيبتها أليصابات الحامل. كم من الأمّهات الحوامل وَجَدْنَ الموت في السرعة وفي السفر وهنّ يَحْمِلْنَ الحياة في أحشائهنَّ! لتساعدنا أمّ الله لكي نتحلّى بنظرة والديّة ترى في الأشخاص أبناء لله وإخوة وأخوات نقبلهم ونحميهم ونعزّزهم وندمجهم ونحبّهم بحنان. لتعلّمنا مريم الكليّة القداسة أن نضع حقيقة الإنسان قبل الأفكار والأيديولوجيّات، وأن نسرع للقاء المتألمين.
المصدر: فاتيكان نيوز