غيتا مارون
دعوته تبرعمت في قلب الكنيسة منذ نعومة أظفاره. أحبّ يسوع وأمّه مريم العذراء، ونشر طيب القديسة تريزيا الطفل يسوع في لبنان والعالم.
ماروني، مريمي، تريزي؛ 3 صفات تُعرّف عن انتمائه وترافق نبضات قلبه المزدان بالمحبّة.
سيّدة التلّة في دير القمر غمرته بردائها ونادته في السابعة من عمره، فهي تعلم بأنّه سيكون رسولًا أمينًا لقلب ابنها يسوع ولها وللرسالة.
وُلِدَ في 19 تشرين الأوّل 1969، وترعرع في أسرة يعتبرها فيض بركات ونعم لأنّ والده ووالدته مؤمنان جدًّا وملتزمان في الكنيسة، فكبر مع إخوته على محبّة يسوع وسيّدة التلّة.
منذ التاسعة من عمره، يشارك في القداس اليومي، ولم ينقطع عنه إلا بسبب المرض أو تراكم الثلوج أو السفر.
نشأ مع رهبان وآباء مريميين، ووضع الربّ في دربه كهنة صالحين علّموه محبّة يسوع وساعدوه لاكتشاف دعوته.
في العام 1977، كانت المرّة الأولى التي أعرب فيها لأمّه عن رغبته في ارتداء ثوب مار شربل، فأجابته: ترتديه عندما تكبر إذ اعتقدت أنّه سيرتديه لبعض الوقت، ومن ثم يخلعه.
في التاسعة من عمره، احتفل بمناولته الأولى، وعلّمته الأخت هدى جقّي محبّة يسوع بقوّة، بخاصة القربان الأقدس. وكانت تقول له: «لا يمكنني أن أنظر إليك بدون الصلاة من أجلك كي تصبح كاهنًا».
في الثانية عشرة، كان الأب بولس فهد يردّد له هذه الآية: «نظر يسوع إليه، فأحبّه» (مر 10: 21)، مضيفًا: «يجب أن تكون راهبًا يا ابني!».
في العام 1983، في خلال الحرب الدائرة في الجبل، كان المعاون الأساسي لكاهن رعيّته الأب يوحنا موراني.
في الثامنة عشرة من عمره، دخل الرهبانيّة المارونيّة المريميّة في 8/8/1988، فاحتضنته كما احتضنها.
في العام 2016، عيّنه البابا فرنسيس أوّل إكسرخوس على موارنة كولومبيا والإكوادور والبيرو.
إنّه الإكسرخوس الرسولي الأباتي فادي بو شبل الذي يشارك «قلم غار» شهادته الملهمة العابقة بالورود المريميّة والأزهار التريزيّة.
علامات دعوة واضحة
يخبر الإكسرخوس بو شبل عن اكتشافه دعوته الرهبانيّة والكهنوتيّة منذ طفولته، فيقول: «منذ صغري، كانت علامات الدعوة واضحة في حياتي.
في السادسة عشرة، أسّست فرسان العذراء مع 3 شباب في دير القمر، وشعرت بأنّ قلبي مفعم بالفرح. وجدت ذاتي في تعليم الإنجيل وحياة القديسين؛ كنت أجد فرحي عندما أعطي يسوع. كبرت مع الربّ، وأحببت أمّه العذراء وأمّي وتعرّفت إلى القديسين وبينهم القديسة تريزيا الطفل يسوع حينذاك لأنّني كنت أتحدّث عنهم إلى الأطفال».
رهبانيّة تسير مع مريم
يعتبر الإكسرخوس بو شبل أنّ الرهبانيّة المريميّة لها فضل كبير على مسقط رأسه دير القمر إذ كانت حاضرة منذ العام 1750 وترعى النفوس.
ويشرح: «أوّل حبّ للدعوة في حياتي أزهر في رعيّة سيّدة التلّة التي يخدمها رهبان مريميّون. الله زرع في دربي كهنة هم قدوة وخير مثال. كنت أقول حينها: “إذا فتحتم قلبي، وجدتم مريم مالكته». اسم الرهبانيّة جذبني، ولطالما قلت: «من تحت التراب، سأبقى مارونيًّا مريميًّا». لا أستطيع اختيار غير ما اختاره الله لي. أحسّ بأنّ خياره أعمق منّي».
تجلّيات الحضور الإلهي
بقلبٍ نابض بالحبّ والامتنان، يسرد الإكسرخوس بو شبل: «عندما دخلت الرهبانيّة المريميّة، استقبلتني عبارة مكتوبة على ملصق كبير في الغرفة: «الطريق طويلة، والصعاب كثيرة، لكنني اخترتكم، فاختاروا!». اعتبرت هذه العبارة جوابًا واضحًا من الربّ».
بعد ثلاث سنوات، في خلال رحلتي إلى الأوروغواي، مررت بديرنا (دير مار أنطونيوس الكبير) في روما ودخلت المكتبة العامة، واخترت كتابًا من مجموعة الكتب، فحضرت أمامي هذه العبارة: “هناك في البلاد البعيدة نفوس تنتظرني. إنّها جائعة لمن يكسر لها خبز الحياة”. عندئذٍ، عرفت أنّ إرادة الله تكمن في أن أُرْسَل إلى هناك.
قرأت في مسيرتي الكثير من العلامات الواضحة والمباشرة؛ في الدير: في عشقوت أو سهيلة أو الأوروغواي، لمست يد الربّ وقوّة كلمته بوضوح في حياتي.
أذكر على سبيل المثال، عندما كنا في عشقوت، يوم منحني الربّ نعمة كبيرة تمثّلت في خدمة الأب الحبيس أنطونيوس طربيه على مدى شهرين في العام 1989.
أبرزت نذوري الموقتة في 18/8/1990، فكان هذا اليوم من أسعد أيّام حياتي، ويومها قلت للربّ: “أنا لكَ إلى الأبد!”».
عثرات وجراح تهزمها نعم غزيرة
عن العثرات والصعوبات التي واجهها في مسيرته، يخبر الإكسرخوس بو شبل: «في مرحلة الابتداء، كنت أخاف على أهلي وإخوتي وأصدقائي في خلال اندلاع الحرب وسقوط القذائف، وكنا لا نستطيع الخروج من الدير. كنت أخاف أن أسمع خبرًا حزينًا متعلّقًا بأحبّتي. من جملة الأمور المؤلمة حينذاك استشهاد صهري عبدو حبيب.
أمّا في الأوروغواي، فتمثّلت الصعوبة في اللغة والفقر وعدم توفّر أساسيّات سبل العيش».
ويضيف: «بعدما أصبحت مسؤولًا عن الكنيسة المارونيّة في كولومبيا والإكوادور والبيرو، واجهنا صعوبات عدّة كعدم الالتزام والافتقار إلى صلة الوصل مع الكنيسة الأمّ، وعدم الخبرة والانفتاح والمعرفة، علمًا بأنّ الكنيسة المارونيّة وصلت إلى بلادهم بعد أكثر من 130 سنة من وصول الجالية. من أبرز التحدّيات إيجاد معاونين حقيقيين للرسالة.
في مسيرتنا الشاقّة، فاضت نعم غزيرة علينا؛ وبعد حوالى 8 سنوات، نحن في صدد بناء كنيسة مار شربل في العاصمة الكولومبيّة بوغوتا. ولقد أعطانا الربّ أوّل كاهنٍ كولومبي ارتسم بحسب الطقس الماروني، ورجلًا متزوّجًا من أصل ماروني ارتسم شمّاسًا، وشابًّا لبنانيًّا ارتسم شمّاسًا أيضًا، وآخر من أصل شرقي يعمل معنا…».
يوم مشرق في حياتي
يعجز الإكسرخوس بو شبل عن وصف اليوم المشرق الذي شهد رسامته الكهنوتيّة على يد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي (كان مطرانًا آنذاك)، وذلك في 23/12/1995 في كنيسة الصعود-الضبيّة، قائلًا: «إذا شرحنا الحبّ، يفقد جوهره. أحسست يومها إلى أيّ درجة يحبّني الربّ. كان يوم سيامتي الكهنوتيّة الأجمل في حياتي. كان يوم فرحي!».
ويقول إنّه اختار شعاره من الليتورجيا المارونيّة: «انثرينا في الأرض حبًّا وعطرًا، في دنيا الله نمضي ننشر البشرى».
محطات متلألئة بالإيمان
محطات بارزة طبعت مسيرة الإكسرخوس بو شبل، منها زيارة ضريح القديسة ريتا في كاشيا عام 1991، وزيارة مغارة سيّدة لورد في فرنسا عام 1996، ولقاء القديس البابا يوحنا بولس الثاني عام 1996، ومرافقة ذخائر القديسة تريزيا الطفل يسوع عام 2002، ولقاء البابا الراحل بنديكتوس السادس عشر في خلال زيارته لبنان عام 2012، وتعيينه من البابا فرنسيس أوّل إكسرخوس رسولي ماروني على كولومبيا في العام 2016، ولقاء البابا فرنسيس في روما عام 2016 وفي كولومبيا عام 2017 ومجدّدًا في روما عامَي 2018 و2023، فضلًا عن محطات شخصيّة مهمّة، أبرزها تدخّل الله بشفاعة العذراء مريم لشفاء والده، ولإنقاذ أمّه من عارضٍ صحّي خطر.
قلب مريم يحتضنني بقوّة
عن علاقته الوثيقة بمريم العذراء واحتضانها ومرافقتها له، يحلو الحديث مع الإكسرخوس بو شبل، فيشرح: «في كتاب “نشيد الحبّ” للأب جناديوس موراني، ترد هذه العبارة: “كما تحبّ الأمّ ابنها قبل أن يراها، هكذا تحبّنا مريم”. هذه الكلمات أجدها صائبة في حياتي، وأعتبر أنّ مريم أحبّتني قبل أن أحبّها.
في طفولتي، كنت أحمل باقة البنفسج إلى مزارها، قائلًا لها: “أنتِ تستحقين هذه الأزهار أكثر من الجميع”.
بالنسبة إليّ، مريم قمر ليلي وواحة صحرائي وفرح حياتي، هي ملكة قلبي حقًّا».
ويخبرنا عن 3 محطات مهمّة لمس فيها الحضور المريمي: «كانت المحطة الأولى في خلال زيارتي مغارة سيّدة لورد عام 1996، حيث شعرت بأنّ قلبي سيخرج من مكانه وينفجر من الحبّ؛ هناك اختبرت هذه الآية: “ما لم تبصره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر” (1 كور 9: 2). قلت للعذراء حينها: قلبي لا يستطيع أن يتحمل المزيد من الحبّ والنعم.
المحطة الثانية تمثّلت في زيارتي مديوغوريه عام 2001. في خلال الظهور المريمي، شعرت بأنّ العذراء إلى جانبي. رفع كل كياني وكل خليّة في جسدي هتاف الشكر ليسوع ومريم. لم أكن قادرًا على أن أسمع أو أرى أحدًا. عدت إلى الواقع بعد حوالى 50 دقيقة. بكيت بكاءَ فرح. لم أرَ مريم لكنني شعرت بحضورها بقوّة».
أمّا المحطة الثالثة، فكانت حين أصبت بالتهاب شديد في عمودي الفقري بسبب التقاط بكتيريا بعد عمليّة جراحيّة عام 2004. وكنت أردّد لمريم العذراء على مثال القديسة الأمّ تريزا: “كوني الآن أمّي”، فاحتضنتني بمحبّتها الأموميّة ولم تتركني أبدًا.
بعد خضوعي لثلاث عمليّات للتخلّص من البكتيريا، وإصابتي بالشلل على مدى 21 يومًا، تمكّنت من الوقوف مجدّدًا، بفضل مريم العذراء وحضورها الدائم، وإيمان عائلتي، وصلاة المحبّين، وما أكثرهم!».
تريزيا الطفل يسوع… بسمة سماويّة
ردًّا على سؤال حول العنوان الذي يمنحه لعلاقته مع القديسة تريزيا الطفل يسوع، يقول الإكسرخوس بو شبل بفرح: «أطلق عليها “بسمة سماويّة في حياتي”، فأنا تعرّفت إليها في شبابي لدى تأسيسي فرسان العذراء، وإخبار الأطفال قصّة حياتها، ولقد لمستني منذ قراءة سيرتها.
في العام 1988، شاركت في الثلاثيّة المريميّة التي كانت تُقام في الدير الأمّ للرهبانيّة المارونيّة المريميّة في ختام الشهر المريمي. وكانت إقامتي حينذاك في سهيلة. في التاسع والعشرين من أيّار، سألت القديسة تريزيا الطفل يسوع أن أبقى في ديرها إذا أصبحت راهبًا، أقلّه سنة. كنت أصلّي، محدّقًا في صورتها. شعرت بأنّها ابتسمت لي روحيًّا. أحسست بتبادل نظرات… بعد نذري، بقيت 11 شهرًا في ديرها قبل الانتقال إلى الأوروغواي، واعتبرت هذا الاختبار نعمة كبيرة.
في دير القديسة تريزيا الطفل يسوع، قرأت “تاريخ نفس”.
عند انتقالي إلى الأوروغواي، طلبت ذخيرة من ضريح معلّمة الكنيسة لتوضع في كابيلا مغلقة تحمل اسمها. فأرسل لي الأب ريمون زامبيلي، المسؤول عن جولة ذخائر القديسة تريزيا الطفل يسوع في العالم، ذخيرة من شعرها. اعتبرت حينها أنّها أجابتني. وضعنا الذخيرة في الكابيلا، وفتحناها لجميع المؤمنين».
ويتابع: «عدت إلى لبنان، وعُيّنتُ وكيلًا لدير القديسة تريزيا الطفل يسوع في العام 1999. كبرت محبّتي تجاهها. بتنا نلتقي بها يوميًّا في صلواتنا، وصرنا ننظّم ساعات سجود، ونصلّي تساعيتها…
قرأت الأعمال الكاملة 3 مرات، وقدّمت برنامجين عبر أثير صوت المحبّة، هما «وردة من السما» و«أجوب العالم».
شعاري «من لا يعرف، لا يحبّ». كلّما تعرّفت إلى القديسة تريزيا وتعمّقت في مسيرتها وروحانيّتها، زاد تعلّقي بها.
في العام 2002، زارت ذخائر القديسة تريزيا الطفل يسوع لبنان، وجالت في ربوعه، فكنتُ شاهدًا على النعم التي أغدقتها على المؤمنين. أشهد بأنّ كثيرين حصلوا على نعم في خلال زيارتها لبنان، ولا سيّما أشخاص رغبوا في الإنجاب، فأنعم الربّ عليهم بالخصب بشفاعة القديسة تريزيا، منهم عائلة أخي طوني بعد انتظار 9 سنوات، فأكدت لها أنّ النعمة التي حصلت عليها هي وردة من تريزيا».
ورود عيد تريزيا
يواصل الإكسرخوس بو شبل سرد اختباره مع النعم التريزيّة بقلب مفعم بالسلام الداخلي، فيقول: «في ليلة عيدها الواقعة في 30 أيلول 2002، كنت حاضرًا في سهيلة في خلال شهادة حياة أحد الشمامسة الذي قال إنّه صلّى تساعيتها، ودخل غرفته، فوجد وردة على فراشه.
حينها، قلت لها في قرارة نفسي: “منذ شهر، أنثر ورودك على الناس، ولم أحصل على وردة منكِ”.
لم تمرّ 3 ساعات حتى جاء صديقٌ حاملًا وردة حمراء، وقال لي: “هذه وردة القديسة تريزيا الطفل يسوع لك!”.
وتابع: «ذاتَ يوم، أردت أن أضع وردتين أمام تمثال مريم العذراء الموجود في غرفتي. اخترتهما من باقات الورود في السكرستيّا. ولدى مروري تحت صورتها، متوجّهًا نحو غرفتي، سمعت صوتًا داخليًّا يقول لي: «خذ هاتين الوردتين، وامنحهما لصبيّة وشاب موجودين في الكنيسة».
أخذت الوردتين واقتربت من فتاة وشاب راكعين يرفعان الصلاة في الكنيسة، قائلًا لهما: «القديسة تريزيا الطفل يسوع أرسلت لكما هاتين الوردتين».
وإذ بهما يجهشان بالبكاء لأنّهما كانا يسألانها إذا عليهما القيام بأمر معيّن، ويطلبان وردة علامة منها…».
يعرّف الإكسرخوس بو شبل عن القديسة تريزيا بأنّها صديقته وأخته الروحيّة، مردفًا: «عندما غادرت ذخائرها المقدّسة لبنان، زارت إيميه إسطفان ليزيو. وقبل عودتها، سألَت القديسة أن ترسل إليّ جملة روحيّة كانت لتختارها من أجلي، فكان مفادها: “إنّكَ أخي وصديقي وعيني تسهر عليك”. هذه كلمات القديسة تريزيا الطفل يسوع عينها لأخيها الروحي المرسل، فكانت جوابًا واضحًا لي».
كما يخبر الإكسرخوس بو شبل عن زوجين تناولا بتلتين من ورود لامست ذخائر معلّمة الكنيسة، وحصلا على نعمة الخصوبة والإنجاب، ويشاركنا الكثير من الاختبارات الرائعة التي اخترنا منها ما ورد أعلاه.
شكرٌ للربّ ويوبيل مقبل
يختم الإكسرخوس بو شبل شهادته الملهمة عبر «قلم غار»، رافعًا الشكر إلى الله على رحمته وفيض حبّه واحتضانه بمحبّته اللامتناهية. ويردف: «أطلب من الناس أن يذكروني في صلاتهم عندما يرفع الكاهن القربان لأنّني أعتبر أنّ يسوع يُرْفَع في هذه اللحظات إلى الآب السماوي، ونحن نرتفع فيه ومعه وبه إلى الآب. إنّها أجمل لحظة أعيشها في القداس: تقدمة المسيح إلى الآب. رفع القربان هو قمّة الحياة الروحيّة».
كما يوجّه الإكسرخوس بو شبل شكره العميق لـ«قلم غار»، ويدعو المؤمنين إلى الاستعداد للاحتفال بالمئويّة الأولى لإعلان قداسة تريزيا الطفل يسوع في 17 أيّار 2025، متمنّيًا منهم، ولا سيّما الشبيبة، التعمّق في قراءة كتابَي «تاريخ نفس» و«الأعمال الكاملة» وسواها من الكتب الروحيّة للاقتداء بمسيرتها المباركة.