إلسي كفوري خميس
صوت صارخ في عالمنا الملوّث بالخطايا والمشبع بالماديات وانهيار القيم.
لا يختلف اثنان على شجاعته وجرأته في طرح قضايا الناس ومشكلات العصر بطريقة عفويّة، وأحيانًا فكاهيّة، من دون فقدان عمقها.
عُرِفَ بعظاته المدوّية المتسلّلة إلى القلب والعقل، وقد تحوّلت مادة دسمة للتداول على المنصّات الافتراضيّة، تحديدًا عبر فيسبوك وتيك توك.
جذب الملايين من مختلف الأطياف والديانات بأسلوبه البسيط والحاد في آن، الملامس للواقع حتى بات كثيرون ينتظرون عظاته أو يقصدون الكنيسة للاستماع إلى كلماته الصادقة التي تقرّبنا أكثر من الله.
إنّه وكيل دير مار عبدا في دير القمر وخادم دير يسوع الملك-زوق مصبح وأمين السرّ العام السابق للرهبانيّة المارونيّة المريميّة الأب روي عبدالله الذي يروي لـ«قلم غار» مسيرته الكهنوتيّة وسرّ بصمته في النفوس المتعطشة إلى كلمة الله.
مريم اختارتني
يخبر الأب عبدالله عن حضور الله في حياته، قائلًا: «لا أعتبر وجود الله في حياتي عجائبيًّا أو غريبًا، بل أراه حالة من النموّ في كل المراحل، وصولًا إلى الدعوة الكهنوتيّة إذ استطعت عبرها إعادة قراءة حضوره في محطات عدّة؛ اللحظات السعيدة والمؤلمة في آن. في كل مرحلة، اكتشفت كيف قولب الله شخصيّتي وأثّر فيها، لكنني لم أستطع إدراك ذلك حينها بل بعدما أصبحت كاهنًا ونظرت إلى حياتي بعينَي يسوع، فلمست حضوره القويّ».
يتحدّث عن كيفيّة اكتشاف دعوته الكهنوتيّة «بطريقة عفويّة». ويتابع شارحًا: «كانت تراودني أفكار سلبيّة عن الحياة ومدى تفاهتها. عشت في ضياع، شعرت بأنّني أسير بلا هدف، وبأنّ ما أفعله لا يرضيني. وغالبًا ما سألت نفسي: “ما معنى الحياة؟ أين الحقيقة؟ كيف أحقق ذاتي؟”… كنت حينها في سنتي الأولى من تخصّصي في الإخراج التلفزيوني والإذاعي، لكنه لم يكن يعني لي شيئًا ولم أستمرّ فيه».
يضيف: «جلّ ما كان يعنيني هو يسوع المسيح فحسب. عندما كنت أحضر إلى الكنيسة وأسجد أمام القربان الأقدس وأتعمّق في كلمة الله، أشعر بأنّ الأجوبة لا حدود لها. عندها، فكرت كيف يمكنني إدراك تلك الحقيقة المطلقة، فوجدت أنّني أرغب في أن أهب ذاتي ليسوع فقط، وأنذر كلّيتي له. وكان السبيل لتحقيق أمنيتي الحياة الرهبانيّة».
أمّا في ما يتعلّق باختياره الرهبانيّة المارونيّة المريميّة، فيقول إنّ العذراء هي من اختارته ليكون في رهبانيّتها. ويردف: «لم أكن مقرّبًا كثيرًا منها، وتعجّبت كيف سمحت الظروف بأن أكون في رهبانيّة مريميّة. في فترة الابتداء والدراسة في روما، لمست الحضور الفائق لمريم العذراء في حياتي، وأحسست بأنّها دعتني لتزيد معرفتي بها من خلال الرهبانيّة المريميّة».
دموع غزيرة وانخطاف
يصف الأب عبدالله يوم سيامته الكهنوتيّة بأنّه «رائع ومقدّس»، مسترجعًا لحظات هذا الحدث المميّز: «أُقيمت رسامتي في دير القديسة تريزيا الطفل يسوع في سهيلة برئاسة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. كان احتفالًا مهيبًا، وعشت في خلاله حالة انخطاف. لم أتصوّر أنّني سأصبح كاهنًا، وأحسست بأنّني لا أستحق سرّ الكهنوت. في أثناء زيّاح القربان، سرت وسط الحضور والتصفيق الحار، لكنني لم أكن أرى الطريق أمامي بسبب غزارة دموعي. رأيت يسوع فحسب، وتمنّيت أن أكون مستحقًا لما يعطيني إيّاه».
يتحدّث عن اختباره حضور الربّ في أوقات الشدائد، قائلًا: «كنت ألمس وجوده دومًا من خلال الصمت والتأمّل». ويردف: «لا يمكن أن ألمس حضوره وسط الزحمة والضجيج أو لحظات الألم… اكتشفت أنّني حين ألتجئ إلى الصمت والتأمّل في ذروة الوجع، أختبر وجوده لأنّ الله يتكلّم في السكون. في وقت الضجيج، لا نسمع كلمته لأنّه يحكي كالنسيم العليل. حين أجلس في الكنيسة وأسجد أمام القربان أو أقرأ الكتاب المقدّس بصمت أو أسير في الطبيعة متأمّلًا، كل الأمور تتّضح في ذهني، فأدرك أنّني لم ألاحظ التدخّلات الإلهيّة التي حصلت حينها في قلب المعركة أو العاصفة. عندئذٍ، تتحوّل ابتهالاتي إلى صلاة شكر على الصليب والوجع لأنّني أعلم أنّ مشروعًا أكثر جمالًا أعدّه الربّ لي».
راعٍ لرعيّة كبيرة
يتميّز الأب عبدالله بعظاته المؤثرة والمنتشرة على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يخبر عن بداية تداول عظاته في زمن كورونا، مستندًا إلى المثل القائل «لا تكره شيئًا لعلّه خير لك»: «الربّ وهبني وزنة الوعظ والتحدّث بعفويّة. أتكلّم بصدق واقتناع تام، وهذا ما جعل عظاتي تبلغ المؤمنين. شاء الربّ أن تصل هذه الوزنة إلى أكبر عدد ممكن من الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي لأنّ أبواب الكنيسة كانت مقفلة بسبب انتشار الوباء، ما اضطرّنا للّجوء إلى المنصّات الرقميّة. أصبح الناس يتابعوننا ويسمعون عظاتنا ويسألون عنا، وتحوّل الأمر إلى كرة ثلج كبرت بسرعة».
ويتابع: «لم أتمكّن من التوقف عن العظات حتى بعد انتهاء كورونا لأنّني تخطّيت حدود رعيّتي وأصبحت مسؤوليّتي الاستمرار في هذه الرسالة لأنّ الناس الذين يتابعونني عبر وسائل التواصل من كل أصقاع الأرض أصبحوا رعيّتي الكبيرة؛ منهم من يطلب الإرشاد والنصح أو الاستفسار عن مواضيع معيّنة. صحيح أنّ ذلك يستغرق الكثير من وقتي، لكنني أحاول قدر المستطاع أن أكون الراعي الصالح لخراف لا أعرفها لأنّ الربّ جعلنا رعيّة واحدة».
سألنا الأب عبدالله عن سرّ حبّ الناس عظاته، فأجاب: «قبل أن أكون كاهنًا واعظًا في الكنيسة، أنا إنسان عادي، لديّ أصدقاء وعائلة، وأعيش حياة بسيطة جدًّا قريبة من الواقع. من هنا، تلتقي أفكارنا، لكن ما أقوم به، في ضوء إيماني بيسوع وتعلّقي الكبير به، أنّني أحمل تلك الأفكار أو الهموم وأضعها أمام المسيح ولا أجيب عنها بلغتنا الأرضيّة وأفكارنا الخاصة بل بمنطق الله. لذلك، إنّ المواضيع التي أطرحها في العظة بسيطة وعفويّة وقريبة من الناس لكن في الوقت عينه عميقة جدًّا ولاهوتيّة لأنّني أعظ بمنطق يسوع».
تعزيز دور الكنيسة
كيف يعزّز الأب عبدالله مسيرة الكنيسة في حال تولّى دورًا قياديًّا أعلى؟ الجواب عن هذا السؤال حمل نقدًا ذاتيًّا. يقول: «إنّ الكنيسة في تجدّد مستمر، لكنني أرى أنّ جزءًا كبيرًا ممّا تضمّنه المجمع الفاتيكاني الثاني لم يتحقق منه شيء. يجب علينا العمل كثيرًا على تطبيق قرارات مجامعنا وتسليط الضوء على النقاط المتعلّقة بالانفتاح والتجدّد والتغيير الجذري لبعض الأمور في حياتنا. الخطة الأساسيّة التي يجب أن نطبّقها هي الاستناد إلى تلك المصادر ومحاولة تطبيق توصياتها».
أمّا على مستوى لبنان، فيضيف: «دعوتنا تكمن في حبّ الآخر ولقائه ومشاركته أوجاعه والانفتاح عليه وإشراكه في عمل الكنيسة. لم نصل بعد إلى اللقاء الحقيقي بين السلطات الكنسيّة والشعب، على الرغم من وجود جمعيّات كثيرة. يجب أن نتشدّد بحبّ بعضنا البعض إذ نشهد انقسامات في قلب مسيحيّتنا، فكيف بالحريّ بالنسبة لنظرتنا إلى الآخرين. كما نفتقد اليوم القرار الواحد».
ويختم الأب عبدالله سرد اختباره العميق عبر «قلم غار» بشكر الله على كل شيء، قائلًا: «الربّ أعطاني الحياة والوزنات مع الصليب، فمن يحبّ، يجب أن يحمل صليبًا كبيرًا جدًّا، لكننا أقوياء بالربّ. أحمده لأنّه صنع منّي شجرة مثمرة، وهو يحميني من الحجارة التي تُرشق بها».