الخوري شربل شلالا
من يترك الروح يقود حياته، هو ابن الله وابنته. فالأكبر لديه وضعيّة الطفل أمام الآب: “إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السماوات. فمن وضع نفسه وصار مثل الطفل، فذاك هو الأكبر في ملكوت السماوات” (مت 18: 1-4). الربّ يدعونا لنصير تلاميذه. نقطة على السطر. هذا ما فهمته تمامًا تريز الطفل يسوع. لم يطلب الربّ منها جهودًا جبّارة ولا عبادات كثيرة، بل طلب منها أن تحبّه بكلّ تسليم وبراءة وثقة، بتواضع وتجرّد. لماذا؟ لكي يكون لتريز القدرة على استقبال نعمه بشوق وفرح واندهاش. أرادها أن تكون له شريكة: “من قبل طفلًا باسمي، قد قبلني”، فيسوع هو الأصغر المتواضع لأنّه يقبل من الآب الذي يلده بالحبّ.
أدركت تريز أنّها بين يدي الآب وهو الذي يرفعها ويجعلها تتقدّم إلى الأمام ويقودها إلى المراعي الخصيبة. التواضع يشبه الطريق الصغير المعتم الذي لا يعرفه أحد لكنّه يصبح طريقًا واسعًا مشعًّا بأنوار القداسة بنعمة من الله. “تعالوا إليّ أيّها المتعبون ومثقلو الأحمال وأنا أريحكم. إني وديع ومتواضع القلب (مت 11: 25-31). لذا قالت تريز الصغيرة: أفهم كلماتك ربّي، الخارجة من قلبك الوديع والمتواضع القلب سأعيشها بنعمة منك لأنّنا إذا أردنا أن نكون تلاميذك نقبل بأن نسلّم ذواتنا لك مثل الطين بيد الخزّاف (إر 18: 6)، فيصير التحوّل فينا تدريجيًّا.
كانت تريز تجد الراحة عندما ترى الربّ منحنيًا لغسل أرجل تلاميذه، فهو الذي أخلى ذاته آخذًا صورة العبد (في 2: 6-11). اختبرت تريز روحانيّة الأيدي الفارغة عندما لجأت إلى رحمة الله وحبّه وأسقطت كلّ ادّعاء وعجرفة. فالتواضع عندها كان قبول مشروع الله، أي قبول الطريق غير المصمّم منّا بل بنعمة من الربّ. لذا كانت تناجيه قائلة: أنت تعرف ضعفي يا ربّ. كلّ صباح آخذ المقصد بأن أطبّق التواضع ولكن عند المساء أعرف أنّي ارتكبت خطايا التكبّر، فيسودني شعور بتجربة الاستسلام. ولكن الاستسلام وانهيار حماسي هما أيضًا تكبّر. لذا أريد أن أبني عليك وحدك رجائي.
اقتنعت تريز بأنّ الإنجيل هو وحده الوسيلة للدخول في القداسة التي هي للكلّ شرط أن نقبل بأن نكون بين يدي الربّ. لذا كانت تقول في صلواتها: سأقبل أن أنحني بتواضع وأُخضع إرادتي لأخواتي من دون أن أسأل إذا كان لهنّ الحقّ بذلك كما فعل الربّ مع أمّه ومع جلّاديه. لذا نحن بحاجة إلى قوّة الحبّ لعيش التواضع.
عرفت تريز أنّها إذا كانت صغيرة يمكنها أن تأتي إلى الآب، فاختارت طريق الطفولة والتواضع، ولم تشكّ بندائه لها وبقدرته على جذبها، فصلّت: يا يسوع! لقد قلتَ: “تعلّموا منّي إني وديع ومتواضع القلب تجدوا راحةً لنفوسكم”. يا سلطان السموات القدير، نعم، إنّ نفسي تجد الراحة عندما أراك تأخذ صورة الإنسان وطبيعته، وتتنازل فتغسل أقدام رسلك. وإني أتذكّر كلماتك التي تلفّظتَ بها لتعلِّمني ممارسة فضيلة التواضع: إني أعطيتكم قدوةً لتصنعوا أنتم ما صنعت أنا. ليس التلميذ أعظم من معلّمه… إن فهمتم ذلك، ستكونون سعداء بممارسته. إنّي أفهم، يا ربّ، هذه الكلمات الخارجة من قلبك الوديع المتواضع، فأريد أن أحفظها بمعونة نعمتك…
والآن فإنّني أراك في القربان وقد بلغت منتهى اتّضاعك. يا لتواضعك، أيها الملك الإلهي المجيد، الذي يجعلك تخضع لجميع كهنتك، من دون أن تميّز بين الذين يحبّونك وبين الذين هم، وللأسف، فاترون أو باردون في خدمتك… فتنزل من السماء عند ندائهم، وهم يقدرون على تقديم ساعة القداس وتأخيرها، وأنت دائمًا مستعدّ… يا حبيبي، كم تبدو لي وديعًا ومتواضع القلب تحت حجاب القربانة البيضاء! ولا تستطيع أن تتواضع أكثر من ذلك لكي تعلّمني التواضع.
إني أعرف، يا إلهي، أنَّك تحطّ النفس المتكبّرة، وتمنح مجدًا أبديًّا للنفس المتواضعة. فأريد إذًا أن أضع نفسي في المقعد الأخير، وأشاركك في إهاناتك، حتى يكون لي نصيبٌ معك في ملكوت السموات.
…. ولكي أنال هذه النعمة من رحمتك اللامتناهية، سأردّد لك غالبًا: “يا يسوع، أيّها الوديع والمتواضع القلب، اجعل قلبي مثل قلبك”.