ماري حنّا
تتحضّر إهدن لتحتفل بتطويب أحد أهمّ أبنائها البطريرك إسطفان الدويهي، «عمود الكنيسة المارونيّة»، وأبرز المؤرّخين اللبنانيين في القرن السابع عشر. «أبو التاريخ الماروني» سيُعْلَنُ اليوم طوباويًّا على مذابح الكنيسة الكاثوليكيّة.
لنتعرّف على بلدته التي نشأ وترعرع فيها.

إهدن بلدة تابعة لقضاء زغرتا-الزاوية في محافظة الشمال. ترتبط بعلاقة خاصة مع مدينة زغرتا، وتشكّل مركز قضائها الصيفي. ترتفع عن سطح البحر 1500 م. كمعدّل وسطي.
إهدن وزغرتا نموذجٌ فريد في لبنان، فتُعتبر إهدن للزغرتاويين وزغرتا للإهدنيين.
تعود قصّة تملُّك إهدن للبقعة التي قامت عليها زغرتا إلى أوائل القرن السادس عشر، زمن الحروب بين السلطانين سليم العثماني وقانصوه الغوري ملك مصر. بعد انتصار السلطان سليم في معركة مرج دابق، أرسل اثنين من رجاله لجمع المال من بلاد الشام والعودة به إلى مصر. في طريقهما، مرّا بإهدن، في ليلة عاصفة ومثلجة، ما حال دون تمكّنهما من متابعة مسيرتهما، فمكثا فيها خمسة أيّام متتالية، حظيا في خلالها بحسن الضيافة والاستقبال من أبناء البلدة. لدى وصولهما إلى مصر، طلبا من السلطان سليم مكافأة أهالي إهدن على صنيعهم، فقدّم السلطان للإهدنيين قطعة أرض مجاورة لبلدتهم، بناءً على طلبهم، شكّلت مقرًّا شتويًّا لهم يحميهم من قساوة فصل الشتاء وأصبحت تُعرف في ما بعد بزغرتا.

أصل تسمية إهدن
«جنّة عدن»، وصفٌ أطلقه على إهدن الكثير من المؤرّخين عند تفسيرهم معنى اسمها، منهم البطريرك العلامة إسطفان الدويهي الذي قال عنها في مجلّدٍ كتبه، ولا يزال محفوظًا في مكتبة الفاتيكان، إنّها «عدن» المعروفة بالفردوس، مستندًا في رأيه إلى ما جاء على لسان النبي حزقيال: «الأرز في جنّة الله لم يفُقْهُ، والسرو لم يشبه أغصانه، والدلب لم يكن مثل فروعه. كل الأشجار في جنّة الله لم تشبهه في حسنه» (حز 31: 8). وقد دعم هذا التفسير الكثير من المستشرقين والمؤرّخين. لكن الأديب والباحث أنيس فريحة استبعد هذا الاحتمال، لافتًا إلى أنّه محاولة وطنيّة لجعل فردوس عدن في الوادي المقدّس. وأعطى تفسيرات عدّة لاسم إهدن، معتبرًا إيّاه مشتقًّا من جذر «أدن» ويعني القوّة والثبات والسكون، ويقابله بالعربيّة «هدن» ويعني السكون والاستقرار، كما يعني أيضًا الخصب. وأورد احتمالًا آخر هو Eden، وتفسيره القاعدة والرأس ومن الجبل سفحه، فيكون المعنى «سفح الجبل وقاعدته»، الأمر الذي ينطبق على موقع إهدن.

تاريخ إهدن
أدّت الأحداث والنكبات التي مرّت على إهدن في الماضي إلى فقدان كل المخطوطات والوثائق التي كتبها أبناؤها عن تاريخها القديم، ولم يُعثر سوى على مخطوطٍ واحدٍ كُتِبَ على جلد شحيم قديم، هرّبه كاتبه معه حين تعرّضت إهدن لنكبةٍ شتّتت أهلها في أوائل صيف 1283، إثر سقوطها بيد المماليك بعد حصار دام 40 يومًا. وخوفًا من أن تضيع هذه الوثيقة، سلّمها صاحبها إلى أحد أصدقائه أو معارفه الذي حفظها لديه.
بعد زمن طويل، عثر عليها الخوري جرجس يمّين الإهدني في منزل أحد كهنة بشرّي، فنسخها حرفيًّا واحتفظ بها، لكن عوامل الزمن أثرت سلبًا على نسخة الوثيقة وبات من الصعب قراءة أحرفها، فضلًا عن فقدان الوثيقة الأصليّة. لكن العناية الإلهيّة جعلت أبناء إهدن يعثرون على نسخة أخرى من الوثيقة محفوظة في مكتبة الآباء المرسلين اللبنانيين في جونية، نسخها الخوري يوحنا السبعلي عن الوثيقة الأصليّة، فكانت لهم بمثابة العثور على كنز ثمين.
كانت إهدن تُعرف قديمًا بـ«تلاسار» أي جنّة الدائرة، وهي كثيرة المياه والأشجار، ويعتبر بعض مفسّري الكتاب المقدّس أنّها كانت مكان سكن آدم، لكن هذا الرأي غير أكيد، بحسب ما جاء في الوثيقة.
قبل المسيح بحوالى ألف سنة، توجّه الإهدنيّون إلى فلسطين لمحاربة الإسرائيليين واستوطنوا هناك. فخربت بلدتهم من بعدهم، وبقيت على هذه الحال حتى سنة 850 ق.م.، لمّا جاءها الملك هذر عازار السرياني وجدّد بناءها وعرفت شهرة واسعة حتى سنة 700 ق.م.، حين أحرقها «سنحاريب» ملك الأشوريين وقتل أهلها بالسيف، فعادت خرابًا حتى حوالى سنة 300 ق.م. من ثم، أعاد سلوقوس قائد جيش الإسكندر العظيم بناءها، وأسكن فيها أناسًا من ماكيدونية كانوا يتكلّمون اللغة اليونانيّة. وقد شيّدوا لهم هيكلًا ووضعوا فيه صنمًا لمعبودتهم الشمس.
حوالى سنة 183 بعد المسيح، حاصرها القائد بومبايس وقتل أهلها وهدم المدينة.
بعد خمسين سنة، سكنها السريان، وأعادوا بناءها من جديد، واعتنقوا الدين المسيحي الذي هداهم إليه مار سمعان العمودي.
نكبة إهدن
عندما هاجم الصليبيّون طرابلس سنة 1271، في عهد الملك ظاهر، وقف الإهدنيّون بجانبهم وحاربوا الملك وهزموه. لكنه جمع جيشه عام 1283، وزحف إلى جبّة بشرّي وواجه الإهدنيين في مكان يُسمّى عقبة حيرونا. ودارت معركة بينهم لمدّة ثلاثة أيّام، انهزم فيها الإهدنيّون وعادوا إلى بلدتهم واعتصموا في قلعة وسط البلدة. فحاصرهم الملك وجيشه داخلها مدّة أربعين يومًا. من ثم، دخل القلعة وهدمها كما دمّر الحصن الذي يقع على رأس الجبل، فاضطر الأهالي إلى الهرب.
لما عادوا إلى بلدتهم، بنوا كنيسة مار جرجس القديمة على أطلال القلعة وكنيسة سيّدة الحصن مكان الحصن المهدّم. وكانت آخر نكبة حلّت بإهدن سنة 1586، حين أُحرقت من دون أن يُعرف أيّ تفصيل عن هذا الحريق وسببه وفاعله.

كنائس إهدن وأديارها
تضمّ إهدن عددًا كبيرًا من الأديار والكنائس، نذكر منها:
- كنيسة مار ماما الأثريّة: هي أقدم الكنائس المارونيّة في لبنان. بُنِيَت سنة 749، وتقع في وسط إهدن. شُيِّدَت على أنقاض هيكل وثني، واستُخدمت حجارته في بنائها.
بالإضافة إلى ما يأتي: كنيسة مار جرجس، كنيسة سيّدة الحصن، دير مارت مورا، دير مار يعقوب، دير مار سركيس وباخوس، كنيسة سيّدة الحارة، كنيسة مار بطرس وبولس، مار سمعان، مار عبدا.

تواصل إهدن رحلتها عبر الزمن، حاملةً معها عبق التاريخ وجمال الطبيعة. في كل زاوية من زواياها، قصّة تدلّ على عراقتها وفرادتها.
———————————————————-
مراجع معتمدة لكتابة المقال:
-الأب بطرس بركات، صفحات من تاريخ إهدن: أصول ومراجع، بيروت: مطابع جوزيف د. الرعيدي، 1987.
-الأب بطرس بركات، تاريخ إهدن: أصول ومراجع، بيروت: مطابع جوزيف د. الرعيدي، 1984.
-طوني مفرّج، موسوعة قرى ومدن لبنان، ج. 1، بيروت: نوبليس، [د.ت.].
-عفيف بطرس مرهج، اعرف لبنان، ج. 1، بيروت: مؤسّسة الأرز للطباعة، 1971-1972.
-أنيس فريحة، معجم أسماء المدن والقرى اللبنانيّة وتفسير معانيها، ط. 4، بيروت: مكتبة لبنان، 1996.
-كمال فغالي، لبنان في موسوعة، ج. 5، الأشرفيّة: إنترناشيونال بابليشرز، 2002.