طوني لطيف
الحياة ينبوع أفكار، والتجارب طريقٌ لتحقيقها، والتجربة جديرة بالمحاولة.
من هنا، بدأت المسيحيّة المبنيّة على تعاليم المسيح وشخصه وأفكاره، والتي كانت في كثير من الأحيان ثورة حقيقيّة وتحوّلًا جوهريًّا في حياة الكثيرين الذين عرفوه أو سمعوا به. فالمسيح هو صانع اللامعقول والفاعل الدائم في كل من أراد أن يكون على علاقة مع الخالق ولكن ليس كما كان سائدًا في السابق…
الفاعل اليوم هو الحاضر معنا وبيننا، به كان كل شيء ومعه نصبح هذا الشيء الحيّ، ومن دونه نصبح لا شيء.
إذًا، نحن نتحوّل في المسيح ونصبح جوهر الإيمان.
بدأت مسيرة التحوّل تظهر في كثيرٍ من الأماكن، وانتقلت من مسيرة تبشيريّة بالمسيحيّة إلى حالة اتحاد وشراكة لامتناهية مع الله والعيش في قداسة دائمة مع ابنه وبواسطة الروح القدس، وهذا ما اختبره القديس مارون وعاشه في حياته النسكيّة الفريدة من نوعها على جبل قورش في سوريا الأولى، والتي كان قوامها العيش في العراء ومع الله في كل الظروف الطبيعيّة.
وليس بصُدفة أن يكون هذا القديس والناسك العظيم عابرًا للمسيحيّة جمعاء على الرغم من كل الاختلافات والطقوس في الكنيسة الواحدة قبل الانشقاق العظيم في العام 1054.
وترتبط “الكنيسة السريانيّة الأنطاكيّة المارونيّة” ارتباطًا وثيقًا بالقديس مارون إذ تعتبره مؤسّسًا وشفيعًا وأبًا لها، اجتمعت نُواتها الأولى حول هذا القديس العظيم بهيئة حركة رهبانيّة ما لبثت أن ضمّت علمانيّين.
وقد أكد المجمع البطريركي الماروني الذي ختم أعماله في العام 2006 هويّة الكنيسة بأنها “كنيسة أنطاكيّة سريانيّة ذات تراث ليتورجي خاصّ”.
لذلك، تُعتبر الكنيسة المارونيّة مسيحيّة سريانيّة، وهي جزء من الكنيسة الكاثوليكيّة، والوحيدة التي يحمل أبناؤها اسم قديس وهم منتشرون في بلدانٍ عدّة ويصل عددهم إلى أكثر من ستة ملايين شخص، وهو ما أعلنه الأب العلّامة ميشال حايك الذي يختصر كلامه أكثر من 1500 عام لهذه الجماعة الفريدة: “في أساس المارونيّة راهب قديس، ففي القداسة بدايتها، وفي القداسة استمرارها، وبدون قداسة نهايتها”.
عرفت المارونيّة الصعوبات الكثيرة منذ نشأتها، وما زالت حتى يومنا هذا تعاني المخاض تلو الآخر، فباتت شريكة لذلك الدرب، درب الجلجثة، درب مارون، ودرب معلّمها يسوع المسيح.
وكانت الجماعات المارونيّة تعاني أشدّ الاضطهادات، في نزوح مستمر من منطقة إلى أخرى (لن نغوص في تاريخ عمره أكثر من 1600 عام)، إذا كانت تلك الجماعات مستمرة في نشر ثقافة الحبّ والتضحية والصلاة، كيف لا والمارونيّة هي أكثر من رسالة مسيحيّة! هي قضيّة ومشروع حرّيّة تأثّرت به شعوب عربيّة كثيرة وحاربه أيضًا آخرون.
فباتت المارونيّة رمز للحرّيّة الفرديّة جامعةً تحت عباءتها كل طبقات المجتمع، الفقير منها أو الغني، لكن ما من فقير في الكنيسة المارونيّة، فنحن جميعنا أغنياء بالمسيح وبتعاليمه.
إنها جوهر وجودها في هذا الشرق الذي وُلِدت المارونيّة من رحمه وانطلقت إلى أقاصي الأرض حاملةً رسالة تبشيريّة ليس فقط بالمسيح إنّما بالمعنى الحقيقي للتعايش مع أبناء الله الواحد. أن يكون الشخص حرًّا يعني أن يكون سيّد ذاته، فيكون عاشقًا للحرّيّة ومفاهيمها، أن يتحوّل من عبد سيّئ إلى تلميذ شاطر، أن يصغي إلى كلمة الله أي أن يتحوّل بفعل الكلمة إلى رسول حبّ وسلام.